الجامع الأخضر …عارنا الذي لا يُمحى/ حسن خليفة

انتشرت في المدة الأخيرة ـ على نطاق واسع ـ في الفضاء الأزرق، صورمفزعة معبّرة، شديدة الأثر والوقع على النفوس.. صور الجامع الأخضر العريق بقسنطينة، وصور مماثلة لمنزل الشيخ الإمام عبد الحميد ابن باديس المتهدم، وصور آخرى نُشرت من قبل عن المطبعة الجزائرية الإسلامية وقد آل حالها إلى ما يبكي القلب قبل العين .
هذه ثلاثة معالم من معالم الوضاءة والقوة والعلم والاجتهاد في الدين والحياة في بلادنا، معالم لها قيمتها في التاريخ وفي الجغرافيا وفي موازين العلم والفضل والفضيلة، وأيضا في موازين الجهاد العلمي والفكري والديني؛ حيث يمثّل كل معلم من تلك المعالم كتابا ناطقا بالسؤدد والعز والجهد والبذل والرعاية والنهضة والاجتهاد..
السؤال كما تكشف عنه الصورالمؤثرة القاتلة: كيف انتهت هذه المعالم إلى هذه النهاية المؤسفة القاتمة، وقد صارت (تلك المعالم) محلا لرمي الزبالة والردوم وما يشبه من أنواع المخلّفات؟ كيف أمكن الوصول إلى هذا الحدّ القاتل من الإهمال والازدراء والاستهتار لميراث ديني وثقافي وحضاري شامخ عظيم …حتى صار مكان الجامع الأخضر فضاء لرمي الفضلات والتبوّل أكرمكم الله، حتى لا أقول شيئا آخرأقسى وآكثر إيلاما؟ .
أما منزل ابن باديس فتكفي الصور المرفقة للدلالة على ما وصل إليه هوان تراثنا وفكرنا وإهانتنا لرموزنا بأبشع صور الإهانة.
وأما المطبعة فأمرها غريب كل الغرابة، إذ لم يكف أن يُهتم بها وترمم ويعاد إليها ألقها الثقافي ويجعل منها متحفا للزوار يشهد على مدى الاهتمام والاخلاص والجهد الموصول الذي بذله عظماؤنا من أهل الصلاح والإصلاح والفكر والعلم والدين، في الكتابة والتأريخ والطبع والنشر، بما حفظ تاريخ الجهاد الثقافي للأمة الجزائرية ونقله إلى الأجيال القادمة. لقد صارت المطبعة هملا أسدل فجور النسيان والإهمال والاستهتار ستارها عليها، حتى صارت مضرب المثل في الإهمال والنكران، بل مثالا في خيانة الإرث والتنكر له؛ لأن الأمر يتصل بمطبعة وما حقيقة المطبعة ودورها في الحضارة الإنسانية ببعيد، فأي إجرام في حق التاريخ وحق التراث؟ وأي نوع من البشر نحنُ؟ وأي وعي وأي فكر بائس نحمل… والأمر يتعلق بنا جميعا، دون استثناء. سلطة ووصاية ووزارة وجمعيات وشعبا … وبالطبع فإن جمعية العلماء تتحمّل جزءا من المسؤولية في هذا لأنها وثقت فيمن لا تجب الثقة فيهم حين أعلنوا عن الترميم وإعادة إحياء المعالم التراثية والتاريخية.
أما الجامع الأخضر..فحدث ولا حرج .. وما أدراك ما الجامع الأخضر أيقونة الجوامع والمساجد الرسالية الحية التي أدت أفضل وأجمل أدوارها، تعليما وتربية وتكوينا، وتحفيظا للقرآن الكريم وتفسيره ونشره، وإعدادا للإنسان وحفاظا على المقومات والثوابت وخدمة للدين والعربية والوطنية ..عبر عقود من الزمن.
دعنا نعرض ما كتبته إحدى الصحافيات عنه لبيان بعض الحقيقة .. قالت(جريدة النصر 2017):”عندما وصلنا للمسجد، وجدنا أنفسنا أمام بناية مال لون جدرانها الخارجية إلى السواد من شدة اتساخها، وتبدو للناظر أنها لم تُدهن منذ سنوات طويلة، فيما لا تزال مُعلقة في مدخلها، لافتة رخامية تشير إلى أن هذا المعلم كان ذات يوم شاهدا على انتفاضة المسلمين ضد اليهود لاعتدائهم على المقدسات الإسلامية، في 5 أوت 1934، لكن ما أثار انتباهنا عبارة “ممنوع السباب” التي يظهر أن بعض السكان لجأوا إلى كتابتها على الحائط احتراما لقدسية المكان.
حاولنا البحث عمّن يمكنه أن يدلنا من السكان إلى الشخص المكلف بحراسة مسجد سيدي لخضر، والذي قد نجد عنده مفتاح البوابة، لكن تفاجأنا بأن لا أحد من الجيران يملك المفاتيح، إلى أن صادفنا أحدهم، وهو شاب اسمه طارق قال لنا بأنه وبحكم أنه يعيش قرب المسجد، أخذ على عاتقه مسؤولية حمايته ومنع تخريب ما تبقى منه، عن طريق سدّ المداخل الفرعية للمسجد بالوسائل المتاحة أمامه، ولمساعدتنا على دخول المكان من جهة المائضة، كان على طارق أن يزيح نقالة يدوية “برويطة» وبعض الأغراض الصلبة، التي وضعها، ليس للحفاظ على المسجد فقط، بل أيضا لمنع اللصوص من التسلل إلى داخله والسطو عبره على السكنات
والمحلات الملاصقة”.
ثم يكشف الروبورتاج حقائق مشينة عن الإهمال وغياب المتابعة، واللامبالاة، وعدم الوعي بأهمية المكان وقدسيته وتاريخيته وأدواره العظيمة في تاريخنا الديني والثقافي والوطني الحديث والمعاصر.
لمن لا يعرف الجامع الأخضرنقول: إنه مسجد أسس بقسنطينة سنة 1156 للهجرة، أسسه حسن باي، لإقامة الصلوات والذكر والتعليم، وفي جواره مدرسة ملاصقة له نشرت العلم والمعرفة في العهد التركي بقسنطينة.
وقد سُمي الجامع الأخضر أيضا باسم الجامع الأعظم، وتستند شهرته (الجامع) إلى أبي النهضة الجزائرية الشيخ العلامة عبد الحميد ابن باديس الذي قام بالتدريس فيه لمختلف طبقات التلاميذ، مع دروس أخرى على مدى إحدى وعشرين سنة، كما فسر فيه القرآن الكريم على مدى خمس وعشرين سنة. وكانت بداية التدريس فيه كما جاء بقلم الشيخ ابن باديس نفسه:” أما بداية تعليمي فيه، فقد كانت أوائل جمادى الأولى عام 1332هـ (1913 م) وكان ذلك بسعي من سيدي أبي لدى الحكومة فأذنت لي بالتعليم فيه بعد ما كانت منعتني من التعليم بالجامع الكبير، بسعي من المفتي في ذلك العهد الشيخ المولود بن الموهوب “(الشهاب ج 4 ص 303 ).
كيف لنا أن نلقى الله ونحن على هذا النحو من الهوان والغفلة والتنصّل من الأمانة ؟ كيف لنا أن نؤتمن على الدين والثقافة والفكر ورعاية الأجيال ونحن نضيّع ـ بقدر كبير من الوقاحة وسوء التصرف ـ ميراثا تركه العظماء، ميراثا كان سببا في حياة أجيال وأجيال، وكان سببا في الحفاظ على الوطن نفسه ؟ أي عار لحقنا ويلحقنا ونحن سادرون في غيّ أو في غيبوبة لا تلتقط أرواحنا ونفوسنا وعقولنا هذا الميراث بمفرداته العظيمة: المسجد، المطبعة، بيت المؤسس وباني النهضتين الدينية والعلمية ؟ أليس نفاقا أن نحتفي بذكرى 16 من أفريل كل عام ونحن على هذا العقوق المشين لما تركه لنا الأسلاف الماهدون؟ أليس من العار أن ننتسب إلى ميراث ونحن نزدريه ونهمله ولانهتم به، بل ولا ندافع عنه، فلنتخيل فقط: لوكان ابن باديس حيّا؟ ولو كان صحبه من الأعلام أحياء ماذا كانوا سيقولون عنا وهم يرون ما يرون مما آل إليه ما تركوه لنا .
إن أقل وفاء أن نكفّر عن هذه الخطيئة بالتداعي إلى صيانة هذا الميراث بجمع الأموال وإحداث جهاز للاهتمام بترميم المخرّب والمهمل وإعادة الحياة إلى كل ماتعرض للقتل بالإهمال. كيف يجب أن يكون ذلك ..لنبتكر ..لنجتهد ..لنسع …فإن كل الأمم تهتم بتاريخها وتراثها وتضعه في المقام الأول صيانة ورعاية، وتعمل على إيصاله إلى الأجيال بكل الوسائل ..كل الأمم ..إلا هذه الأمة العجيبة…النائمة …البغيضة ..التي ترمي الفضلات على أبواب الجوامع وتتبول على هياكل بيوت قاماتها (مالك بن نبي في تبسه). تبّا لنا جميعا .