الدكتور محمد بوجــلال في حوار للبصائر
- نبذة وافية عن حياتكم ومساركم العلمي والمهني حتى الآن؟
- مساري العلمي عادي جدا، التحقت بالمدرسة الابتدائية سنة 1962 أي مع استقلال الجزائر واسترجاع كرامة هذا الشعب الذي عانى ويلات الاستدمار الفرنسي 132 سنة. بعد حصولي على شهادة الليسانس من المدرسة العليا للتجارة سنة 1979، سافرت في بعثة إلى بريطانيا حيث تحصلت على شهادة الماجستير بامتياز حيث نلت شهادة أحسن طالب، الملفت أنني كنت أول طالب في تاريخ الجامعة البريطانية ينجز رسالة في البنوك الإسلامية كلفتني الانتقال إلى الكويت سنة 1982 من أجل الدراسة التطبيقية بدعوة كريمة من بيت التمويل الكويتي.
بعد التحاقي للتدريس بجامعة سطيف لفترة قصيرة انتقلت إلى جامعة السربون – باريس 2 حيث تحصلت سنة 1992 على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية بتقدير مشرف جدا. مرة أخرى كانت أول أطروحة حول النظام المصرفي الإسلامي، والملفت أن من بين أعضاء لجنة المناقشة الاقتصادي الكبير –صديق الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله- البروفيسور جاك أوستروي المتوفى سنة 2010، والمعروف بصرامته حيث كان يعاقب المترشحين برفض درجة دكتوراه دولة والاكتفاء بدكتوراه من الدرجة الثالثة. خضت هذه المغامرة وكنت أقول في نفسي: إذا عاقبني البروفيسور أوستروي فذاك حظي من العلم، ولكن الحمد لله اجتزت الامتحان بكفاءة عالية وتحصلت على الشهادة بتقدير مشرف جدا.
على إثر حصولي على الدكتوراه اشتغلت كخبير خارجي لدى البنك الإسلامي للتنمية، وتنقلت بين عديد العواصم في غرب إفريقيا ودول الخليج وماليزيا محاضرا حول المالية الإسلامية بشقيها الربحي والخيري (وقف وزكاة).
كما استمريت في التدريس الجامعي متنقلا بين الجامعات الجزائرية والمغاربية والفرنسية كأستاذ زائر. أبرز إنجاز في مساري العلمي أنني ساهمت في فتح تخصص في المالية الإسلامية سنة 2009 بجامعة ستراسبورغ بفرنسا، ثم توالت الدعوات من جامعات أخرى بباريس وبوردو وغرونوبل. أخيرا أشير إلى تجربة مهنية أفادتني كثيرا لما انتدبت لمدة سنتين كمستشار مالي وخبير اقتصادي لدى وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الكويت ومكتب الاستثمار الوقفي بالأمانة العامة للوقف، حيث تمكنت بتوفيق من الله من تطوير نظرية الوقف النامي التي تدرس اليوم في عديد من الجامعات العربية والآسيوية. وفي الجزائر ساهمت في تأسيس صندوق الزكاة الذي نافح من أجله الدكتور بوعبد الله غلام الله لما كان وزيرا، والذي يحتاج منا اليوم إلى استحداث الإطار القانوني المناسب له وقد قدمنا اقتراحات في ذلك. في سنة 2017 عينت عضوا بالمجلس الإسلامي الأعلى وقد أُسند إليَّ ملف الصيرفة الإسلامية لمرافقة الحكومة في توطين المعاملات المالية والمصرفية المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، وقد قدمنا في هذا الكثير والحمد لله.
- موضوع الصيرفة الإسلامية موضوع مهم للغاية في واقعنا الراهن.. لكن الإشكال في المقاربات وعدم التطبيق.. كخبير ومتخصص كيف تنظر إلى الأمر؟
- الصيرفة الإسلامية أصبحت اليوم صناعة، أي تطورت تطورا ملحوظا أفقيا وعموديا، حيث أُنشئت لها المؤسسات الداعمة والقوانين التي تضبط مسارها والمعاهد التي تخرج كوادرها، إلخ… بل أنها أصبحت محل احترام في المحافل الدولية الأكاديمية والمهنية، ويكفي أنها اليوم تشكل الأمل في تقديم البديل الضامن للاستقرار المالي المفقود في ظل النظام الربوي السائد والذي يهدد الأمن والسلم الدوليين في نظر الكثير من الخبراء الغربيين.
- نريد أن نعرف منك –بالضبط- ما الذي يمكن أن يقدمه الاقتصاد الإسلامي في مختلف صيغه لواقعنا المعيش الذي يعاني من كثير من الاختلالات؟
- كمجال أكاديمي بحت، فإن الاقتصاد الإسلامي يحتاج إلى إرادة سياسية لتطبيقه على أرض الواقع، هنالك محاولات جادة لتطوير نظرية اقتصادية إسلامية لكن سيبقى المجال مفتوحا للتعديل والتصويب عند التطبيق. التطبيق هو الذي يساعد على تحسين وتطوير النظرية، ولذلك هنالك مجال واسع لإثراء نظرية الاقتصاد الإسلامي عندما تتوفر الإرادة السياسية وتسمح بتعديل القوانين وبإنشاء المؤسسات ووضع الأطر التنظيمية حتى نتعلم من الممارسة ونكتشف أخطاءنا ونصحح النظرية على ضوء النتائج التطبيقية. وأعطي مثالا: ظللنا نردد أن البنوك الإسلامية حادت عن بنائها النظري المتمثل في تطبيق مبدأ المشاركة في الربح والخسارة. نشرت بحثا عن الحاجة إلى إعادة صياغة نظرية البنوك الإسلامية وأن الخلل ليس في ممارسة البنوك الإسلامية وإنما في مقاربتنا النظرية. ما تقوم به هذه البنوك صحيح وما نظرنا له خطأ. وهكذا في مجالات أخرى التي تحتاج لممارسة في الميدان لتحسين وتحصين البناء النظري، أي نحتاج لهذه الثنائية لتحسين النظرية، كما هو الحال بالطبع للنظريات التقليدية التي هي في أخذ ورد مستمر، لكن الأسس لا تتغير كحرمة الربا والغرر والاحتكار،… الشريعة تبقى الشريعة وغيرها قابل للتغيير والتحسين والتطوير والتأقلم مع الواقع. شافعي العراق غير شافعي مصر…
- بصراحة.. لماذا تأخر تطبيق –ولو بشكل جزئي- الصيرفة الإسلامية وصيغ أخرى للاقتصاد الإسلامي حتى الآن في بلادنا؟
- البنك الإسلامي فكرة جزائرية بامتياز تعود لسنة 1929 لما تقدم إبراهيم أبو اليقظان رحمه الله بمشروع إنشاء مصرف إسلامي جزائري، لكن سلطات الاحتلال الفرنسي رفضته جملة وتفصيلا.
كان على الجزائر الانتظار حتى سنة 1991 حيث افتتح بنك البركة الجزائري أبوابه للجمهور ويقدم خدمات مصرفية متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، ثم تلاه إنشاء بنك السلام سنة 2008. الملاحظ أن إنشاء هذين المصرفين تم في إطار قانون النقد والقرض المصمم أساسا للبنوك الربوية وليس للمصارف الإسلامية. ربما الحدثان الجديران بالتنويه هما إصدار المجلس الإسلامي الأعلى بيانه حول الصيرفة الإسلامية شهر ديسمبر من سنة 2017 والذي ذكَّر فيه تحريم الشريعة الإسلامية للربا وأن سعر الفائدة الذي تطبقه البنوك التقليدية هو إحدى صوره. بعد ذلك صدر في 04 نوفمبر 2018 نظام بنك الجزائر الذي يحمل رقم 02-18 والمنشور بالجريدة الرسمية رقم 73 المؤرخة في 9 ديسمبر 2018. نعم هنالك تأخر في اعتماد المعاملات المصرفية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية ولكن نستبشر خيرا بالانفتاح التدريجي الذي أعلن عنه بنك الجزائر (البنك المركزي)، كما نستبشر خيرا بتعيين محافظ جديد لهذا البنك.
- هل يمكن أن يعرف القارئ المتابع منك حقيقة “المالية الإسلامية” وتطبيقاتها؟
- أسئلتك كبيرة ولكن سأجيب بكثير من الاختصار. المالية الإسلامية دخلت العالمية بامتياز خاصة بعد اندلاع أزمة قروض الرهن العقاري رديئة التصنيف(la crise des subprimes) وهي متواجدة بأكثر من 75 دولة حول العالم. كما أنها أصبحت تدرس في كبريات الجامعات العالمية في القارات الخمس وحيث كان لي شرف المساهمة في إطلاق أول دبلوم جامعي للمالية الإسلامية بجامعة ستراسبورغ سنة 2009. لا زالت المالية الإسلامية تحقق نموا مطردا سنة بعد سنة، بل أن الكثير من المفكرين يرون فيها الملاذ الآمن لمستقبل العلاقات المالية في ظل المخاطر الكبيرة التي تميز النظام الربوي الذي يهدد استقرار الدول.
- ماذا عن تجارب هذه المالية الإسلامية في البلدان التي طُبقت فيها.. إن أمكن نريد إحصائيات وتدقيقات حتى يقتنع القارئ ويعرف أهمية تطبيق الاقتصاد الإسلامي في الواقع المعيش؟
- للجواب على هذا السؤال أنصح القارئ الكريم بالرجوع إلى التقرير السنوي 2019 الصادر عن مجلس الخدمات المالية الإسلامية (ماليزيا) والذي يقع في 100 صفحة ويتضمن أربعة فصول ثرية جدا (أزودكم بنسخة من التقرير).
- كباحث ومتابع ومتخصص.. كيف يبدو لك الوضع الاقتصادي للجزائر في ضوء كل ما جرى من سوء التسيير وانعدام المعايير الحقيقية.. والفوضى.. وكيف ترى المخرج؟
- الجزائر تزخر بإمكانيات مادية وبشرية تؤهلها أن تصبح دولة ناشئة مثل فيتنام أو تايلند أو إثيوبيا أو رواندا. قول الأكاديمي الأمريكي بيتر دروكر ينطبق تماما على الوضع في الجزائر » لا توجد دول متخلفة بل هنالك دول تعاني من سوء التسيير« . نحتاج إلى إعمال العقل والتجرد لتنمية وطننا لأننا نعيش في عالم ليس فيه مكانة للضعفاء، لذلك نحن اليوم بحاجة في الجزائر إلى نقلة نوعية نستطيع من خلالها إعادة تشكيل شبكة العلاقات المجتمعية بتطبيق ثلاثة مبادئ أساسية اعتمدتها سنغافورة فأصبحت من الدول المتقدمة، وهي مبادئ إسلامية لمن أمعن فيها النظر:
- إسناد المناصب والمسؤوليات لمن يستحقها (meritocracy).
- الواقعية (pragramatism) حيث أن مصلحة الوطن تعلو فوق كل اعتبار مذهبي أو إيديولوجي.
- الأمانة (honesty) وهو مبدأ قرآني بامتياز {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[سورة يوسف آية 55]، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [سورة القصص آية 26].
- حدثنا عن النجاح المتحقق(واقعا) في مجال الاقتصاد والمالية الإسلاميين من خلال تجارب كبنك السلام أو بنك البركة أو غيرهما؟
- ما حققه بنك البركة وبنك السلام جدير بالتنويه لأنهما استطاعا مزاولة نشاطهما في بيئة مصرفية ومالية غير مشجعة لهما في ظل غياب قانون يستجيب لطبيعتهما. فهما كمن يذهب لوليمة وهو غير مدعو لها، تصوروا حجم الصعوبات التي تواجه هذين البنكين، ولذلك أحيي في القائمين عليهما تصميمهم في مواصلة النشاط إلى أن يتم إصدار التشريعات والقوانين
والتنظيمات المتوافقة مع طبيعتهما غير التقليدية.
- ما هي قراءتك للتنظيم 02-18 المتعلق بالصيرفة الإسلامية في الجزائر؟ وما هي معوقات تنفيذه؟
- أَفْضَل من لا شيء وهنالك حاجة ماسة لتعزيزه بنشرات ومذكرات توضيحية لأن هنالك الكثير من الفراغات التي تجعل من النظام 02-18 غير قابل للتطبيق.
- أين وصل مشروع دار الزكاة أو صندوق الزكاة؟
- صندوق الزكاة فكرة رائدة تحتاج إلى مأسسة وحسن تنظيم، وقد قدمنا مقترحا للتكفل به من الناحية التشريعية والقانونية والتنظيمية.
- وأين وصل مقترح تشجيع المؤسسات التي تدفع الزكاة مقابل خفض في الضريبة أو إلغائها؟
- تلك غاية سامية لن تتحقق في الأجل القريب، في الجعبة الكثير من الأفكار القابلة للتطبيق والمشجعة على التفاف المزكين المرتقبين لأنه لدي مقولة أترك للقارئ تقدير مضمونها: » الزكاة طعمة للفقير وحماية للمزكي«.
- ملمح التكافل بكل أنواعه وأشكاله من المسائل الهامة في المجتمعات المسلمة أو هذا هو المفترض هل من تطبيقات إسلامية فعالة في هذا المجال إذا ما نزّلناها على واقعنا الإسلامي الجزائري؟
- التكافل موجود في مجتمعنا الجزائري، لكن نحتاج إلى مأسسة العمل الوقفي والأداء الزكوي(والصدقات التطوعية بشكل عام) وقد قدمنا مقترحات مشاريع قانونية للنهوض بهاتين الركيزتين لما يعرف في الأدبيات الأكاديمية بمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي.
- هل تتابع نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. وكيف ترى إمكانية الاستفادة من الطاقات والكوادر المتخصصة في مجال العمل الذي تشتغل فيه جمعية العلماء: تكوينا وتوجيها وتعليما وتأهيلا؟
- جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي ضمير الأمة الجزائرية منذ نشأتها سنة 1931. ما يميزها أنها تواكب تطورات المجتمع الجزائري فتذكر الشعب الجزائري بمرجعيته النوفمبرية الباديسية إذا نسي وتنصح ولاة الأمور إذا اقتضى الأمر ذلك، وتسعى لتربية النشء تربية صالحة آخذة في ذلك بمبدأ الأصالة والمعاصرة. إن افتتاح مدرسة ابتدائية بولاية برج بوعريريج التي أنحدر منها أدخلت في قلوب المواطنين فرحة لا متناهية ولقيت بذلك تجاوبا مشجعا للخط الأصيل الذي تتمسك به الجمعية. أتمنى من كل قلبي أن تكلل مجهودات الجمعية بالنجاح والتوفيق خدمة للدين والوطن الـمُــفَدَّى.
- كلمة أخيرة.
- على قدر الإخلاص يتحقق التوفيق من الله سبحانه وتعالى. فاللهم طهر قلوبنا من الرياء وارزقنا التوفيق في مسعانا للنهوض بمجتمعنا فنرقى بالجزائر إلى مصاف الدول الناشئة ابتداء، والمتقدمة انتهاء ولكن في كنف الإسلام العظيم الذي فيه خير الدارين.
- حاوره نور الدين رزيق وحسن خليفة