نظرية الشعر الإسلامي بين الـمنهج والتطبيق في الـميزان -منظور عباس الـمناصرة نـموذجاً- الجزء الأول/ د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
لعل أحداً لا يحتاج إلى كبير عناء لكي يدرك أن مصطلح «نظرية» يتسم بالشمول والاتساع، فهو مصطلح مشترك بين شتى العلوم، فالنظرية في بعض المفاهيم الفلسفية يُقصد بها «مجموعة من الموضوعات القابلة للبرهنة، والقوانين المنتظمة التي تخضع للفحص التجريبي، وتكون غايتها وضع حقيقة لنظام علمي»)1(.
وانطلاقاً من هذا المفهوم يتبين لنا أن الباحث المقتدر الدكتور عباس المناصرة يسعى إلى مناقشة جملة من المفاهيم التي تساهم في التأسيس لنظرية للشعر الإسلامي بين المنهج والتطبيق، وذلك في كتابه الموسوم بـ:« مقدمة في نظرية الشعر الإسلامي بين المنهج والتطبيق» وهو الكتاب القيم الذي وصفه الأستاذ يوسف العظم بأنه من« النوع المتخصص الذي يبحث في قضية (الشعر الإسلامي بين المنهج والتطبيق) بموضوعية جادة، وجرأة مهذبة، وغيرة كريمة، واستقلالية جديدة. وقد استخدم فيه مؤلفه لغة رصينة، وأسلوباً شيقاً، وسهلاً ممتنعاً لا تعقيد فيه، ولا تنطع، إنها حقاً متعة تغوص في ثنايا نظرية الشعر الإسلامي مفصلة في المنهج والتطبيق، مما يستحق معه المؤلف الشكر والتقدير الخالص، لحرصه على بلوغ الموضوع وإبرازه في أحسن صورة، وأجلى سبيل»)2(.
ينطلق الدكتور عباس المناصرة في عرض رؤيته من التأكيد على أن التفكير الإسلامي هو تصور واتصال بالواقع، وترابط للمعلومات، واكتشاف للعلاقات، وتعرف على الحقائق، والأدب الإسلامي-وفقاً لرؤيته- ينطلق من التعبير الفني عن قيمة الحقيقة، أو المقاصد والنوايا، حيث تربت هذه القيمة على فكر حمل التصور، أو العقيدة الإسلامية.
إن الدكتور عباس المناصرة يُحدد منذ البداية وجهته، فيصرح أنه « بالإمكان أن نبحث عن أدب إسلامي ناضج، إذا تغلغلت العقيدة في فكر الشاعر المسلم، وأشرفت على تنظيف قلبه من غبار الجاهلية.
عندها يكون الشاعر قادراً على تشكيل المشاعر التشكيل الإسلامي، حيث تتربى المشاعر، والأهواء، والميول، والمقاصد على التبعية الكاملة لنهج الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، والسبب في ذلك، أن العقيدة هنا بمثابة التربة والمشاعر، والأهواء بمثابة الغراس والسلوك التعبيري عنها (الأدب) بمثابة الثمار، وبهذا الاعتبار تكون المعاني والإيحاءات الإسلامية في الأدب دائرة حول تحبيب الناس في عقيدة التوحيد الخالصة من كل شرك، وتزين لهم منهاج النبي عليه الصلاة والسلام، وتتفاعل مع محبته، وريادة دينه للحياة، حياة الناس بشمولها، وعمومها، وحمل منهاجه في تفسير الحياة في كل صغيرة، وكبيرة»)3(.
وبالنسبة إلى الغايات والأهداف من الإبداع الأدبي، والشعري الإسلامي، فالأديب المسلم لا يريد إدهاش الناس بقدراته الفنية، لنيل إعجابهم، فهو يدرك بأن اكتساب القدرة الفنية هو جزء مهم من معالم الفن، بيد أنها تظل وسيلة وليست غاية، ويُوجه الدكتور عباس المناصرة نقده نحو دعاة التغريب الذين جعلوا من التعقيد الفني غاية من أجل قتل الأمة في لغتها تحت اسم التطور، فقد استعجل دعاة التحديث بطرح نظريات التغريب في الأدب من أجل عزل تيار الإحياء، والقضاء عليه.
ولقد ظلت المحاولات الإسلامية تنطلق دائماً من النوايا الطيبة، والغيرة على كيان الأمة الثقافي والأدبي، وتمكن تيار الإحياء الإسلامي في محاولاته أن ينتج في(الجانب الإبداعي) أدباً إسلامياً في معظم الأنواع الأدبية المشهورة من شعر ورواية ومسرحية وحديث إذاعي وخاطرة.
يحدد الدكتور المناصرة رؤيته، ومنهجه في سعيه للتأسيس لنظرية للشعر الإسلامي، بالتأكيد على أنه قد اجتهد أن يكون عمله محدداً بهدفين:
- وضع مقدمة منهجية تبين طريق الانتقال من فكر الصحوة الإسلامية (العام العائم) إلى فكر النهضة الإسلامية (المتخصصة) وذلك ليكون النهج ميسراً أمام النظرية الإسلامية الأدبية المبحوث عنها، وكذلك بغرض الإفادة من ذلك في محاكمة فكر الصحوة، وإيضاح الطريق الذي يؤدي إلى الانتقال من (قوقعة الفكر العام) إلى منهج الفكر المتخصص للأدب، وغيره.
- تحديد (الوثائق الشرعية) لاستخلاص النظرية الأدبية من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وأدب الصحابة والخلفاء الراشدين، من أجل تأكيد أهمية مصادر استخراج المقاييس النقدية للفن الإسلامي، حتى يكون التنظير شرعياً إسلامياً، وأدبياً متخصصاً، وبعد ذلك تأتي مرحلة الدمج بين(النظرية والتطبيق) عن طريق دراسة نماذج أدبية متميزة)4(.
التجربة التطبيقية الأولى للإسلام (السيرة النبوية الشريفة)
يشير الدكتور عباس المناصرة إلى أن النزول إلى الواقع بنظرية إسلامية مستمدة من تفسير العلماء للقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، من أجل التطبيق، يقتضي توفر مجموعة من العناصر التي تكتسي أهمية بالغة، وتُساهم في تحقيق هذا الهدف، وهي:
« أولاً: النظرية الإسلامية الواضحة المستخرجة من الإسلام نفسه في موضوع محدد.
ثانياً: فهم الواقع الذي ستنزل فيه هذه النظرية، وعناصر هذا الواقع.
ثالثاً: المؤسسة المشرفة على التطبيق، وتتكون مما يلي: النظرية، والأهداف، والمراحل الغايات، والوسائل، والخطة، والزمن المحدد.
– كادر من فقهاء التنفيذ، يجمعون بين أمور منها فقه النظريات، وفقه الواقع، وفقه التنزيل على الواقع.
– كادر من فقهاء المتابعة وظيفته ضبط الفهم النظري، والتجريبي، والمؤسسي في الواقع، وتصويب الأخطاء بعد حصرها، وتحديدها.
– تكرار التجربة والتوسع فيها، للتأكد من صحتها، وصحة نتائجها، من أجل تعميمها»)5(.
ويرى الدكتور عباس المناصرة أن الهدف من هذه المرحلة هو نقل الإسلام من المراحل السابقة، مراحل التصور الذهني العقيدي النظري إلى الواقع التطبيقي، وذلك من خلال مؤسسات مسؤولة عن التجربة، وتنفيذها ونقدها، وتصحيحها من أجل الوصول إلى أعلى مراتب التطبيق، وبذلك يتحقق إثبات الشمولية عملياً في الواقع، وتطوير النظرية في اتجاه العمق، وتطوير التطبيق والعمل، وتطوير الواقع في اتجاه الأهداف، والغايات.
وبالنسبة إلى استخراج نظرية للأدب الإسلامي، يدعو الدكتور عباس المناصرة إلى ضرورة وضع مسار للتنفيذ ينطلق من قوله تعالى:﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾[سورة آل عمران الآية:119].
إذ لابد من التعامل مع النصوص الشرعية لقضية الأدب، والشعر دون إهمال لشاردة، أو واردة، فمنهجية الانتقاء بقصد، أو بغير قصد، تعد مرفوضة شرعاً في التعامل مع كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يقترح أن يتم تحديد شواهد النظرية الأدبية الإسلامية من خلال مصادرها الشرعية، بعقلية تستطيع المزج بين الخبرة العلمية المتخصصة، والمرونة، والخضوع لمعطيات النصوص، ثم تأتي مرحلة إدراك العلاقة المتشابكة بين جميع النظريات الإسلامية، وارتباطها الوثيق مع العقيدة، والشريعة، ونظام الحياة في المفهوم الإسلامي، إضافة إلى تتبع مقاصد هذه النصوص في علوم التفسير، والسنة، والسيرة، ونقلها إلى مرحلة النظرية المتكاملة، التي تضع جميع الشواهد في مواضعها من خريطة النظرية، واستقراء هذه الشواهد لتحديد الخاص، والعام، والحلال، والحرام، والمكروه، وهذا سيؤدي إلى الخروج بأفكار واضحة التصور، ونظرية مترابطة.
ومن بين الرؤى التي تلفت الانتباه، والتي تعمق معها الدكتور عباس المناصرة ضرورة تتبع الجهود الإسلامية المعاصرة التي بذلت في البحث عن (نظرية الأدب الإسلامي) وذلك لإدراك ومعرفة طبيعة تلك المحاولات، وتقييمها، وعرض جهودها بناء على المقاييس السابقة التي أشار إليها المؤلف من أجل تصحيح الفهم، والتطبيق بحثاً عن المسار العلمي، ويؤكد الدكتور المناصرة على ضرورة أن يجمع من يتصدى لقضية التنظير في (نظرية الأدب الإسلامي) في علمه، وخبرته بين جملة من الصفات، ومن أبرزها«العلم العميق بشواهد النظريات التي تخص الأدب في القرآن الكريم، وجمع الآيات التي تخص اللغة، والبيان، والشعر، والكلمة، وخطرها، وحكم الإسلام فيها، ثم ما يخص هذه المواضيع من السنة الشريفة (الأحاديث) أو(التقرير) لأدب الصحابة، وآراء علماء التفسير في ذلك، وإتقان علوم الأدب وفنونه من حيث العلم العميق بتاريخ الأدب العربي، وعصوره، والأنواع الأدبية، والمدارس الفنية التي سادت فيه، والمؤثرات الداخلية، والخارجية التي أثرت في الإنتاج الأدبي، بالإضافة إلى التمرس بفقه اللغة العربية، وعلومها، حتى يكون في منهجه ملماً بالجوانب العلمية لأهل الصنعة الأدبية، والمنهجية الفقهية، وبذلك يكون مؤهلاً من الجانبين(التخصصي، والشرعي) للتنظير لهذا الفن»)6(.
كلية الآداب ،جامعة عنابة، الجزائر