الخوارزمي عالم الرياضيات في القرن التاسع الميلادي/ دحماني محمد أرزقي
لاشك أن تراثنا الإسلامي حافل وغني بكل جليلة وفخار، ويُعاب علينا ونحن الوارثون لهذا التراث أن نطرف البصر والبصيرة ونطوي على دُرَرِه ولآلئه كَشَحًا بدل أن نفتح صحائفه النيرة بين الأبناء والأحفاد ليطلعوا على منابع حضارتهم الزاهرة التي امتدت جذورها في أعماق التاريخ، ذلك أنه لا يوجد في نظري ما يوقظ الهمم ويشحذ العزائم في نفوس الأجيال أكثرُ من فتح إطلالة على حضارتنا العريقة ومالها من علماء وأمجاد تأثَّلتْ شهرتهم وتركوا بصماتِهم النيرةَ في سجل الإبداع الإنساني عبر الزمان والمكان.
وفي هذا السياق أتناول اليوم بشيء من الاختصار موضوعا تراثيا يتعلق بعَلَمٍ من أعلام الرياضيات في القرن التاسع الميلادي وهو محمد بن موسى الخوارزمي صاحب كتاب ( الجبر والمقابلة) الذي لا نعلم بوجه الدقة تاريخ ولادته ووفاته، لأن كل التواريخ الواردة في مختلف المراجع غيرُ مؤكَّدة وغير محققة، غير أن ما جاء في كتاب فهرست لابن النديم يؤكد أن الخوارزمي كان منقطعا لمكتبة المأمون الذي حكم من سنة 813 إلى سنة 833 م وهو ما أكده الخوارزمي نفسُه في كتابه “الجبر والمقابلة” الذي اعترف فيه بفضل المأمون وتشجيعه له ولكل العلماء الذين يجتهدون لإيضاح ما كان مستبهما وتسهيل ما كان مستوعرا على حد صياغته وتعبيره، ذلك ما يدل على وجه اليقين أن الخوارزمي عاصر المأمون وأنه عاش في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي .
أما مؤلفاته فقد تناولت تقريبا كل علوم عصره مما يدل على موسوعيته المعرفية التي جعلته مَيْسَانَا ساطعا شاع سُمَاهُ بين علماء زمانه، ولعل من جملة الشواهد التي تثبت هذه الحقيقة أن المسعودي (885 ـ 956) ذكره في مروج الذهب وصنَّفه بين المؤرخين، وأن البيروني (983 ـ 1048) أشار إلى أزياج الخوارزمي ومؤلفاته الفلكية، كما ذكره أيضا ابن خلدون في مقدمته حيث قال فيه نقْيَةَ حَقٍّ واعترف له بعلو كعبه، وكونه أحد الأحدين في الرياضيات باعتباره أولَ من كتب في الجبر والترميز والمعادلات .
ومن هذه المؤلفات على سبيل المثال لا الحصر نذكر (الجمع والتفريق) (رسم الربع المعماري) (تقويم البلدان الذي شرح فيه آراء بطليموس) (العمل بالأسطرلاب) وتعليقات هامة أخرى في مجالات علمية متنوعة، بالإضافة إلى كتابه الشهير (الجبر والمقابلة) الذي نال شهرة عالمية في الشرق والغرب وأصبح مرجعا لاغنى عنه لأهل الاختصاص في المجال الهندسي والرياضي خلال العصر الوسيط وما بعده، لكن ما يُؤْسف له في هذا المضمار أن بعض المخطوطات العربية إن لم أقل أكثرها لاتزال محفوظة في دور الآثار أو الجامعات الغربية في ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وغيرها، ومنها مخطوط هذا الكتاب (الجبر والمقابلة) المحفوظ بمكتبة (بودلين) بأكسفورد، هذا المخطوط الذي فُرِغَ من نسخه بالقاهرة سنة 743 للهجرة أي بعد موت الخوارزمي بخمسة قرون وهي النسخة الوحيدة المحفوظة من هذا الكتاب الذي لم تُنشر نسخته العربية إلا مرة واحدة سنة 1831 من قبل الديبلوماسي والسياسي الألماني (فردريك روزن 1856 ـ 1935) وطُبعت بلندن ونشر معها ترجمة باللغة الإنجليزية، ثم نشر أخيرا باللغة العربية أيضا سنة 1937 من طرف الباحِثَيْن(علي مصطفى مشرفة، ومحمد مرسي أحمد) رحمهما الله وطيب ثراهما .
وكل ما ذكرناه عن هذا العالِم الفذ الخوارزمي أو كتابه (الجبر والمقابلة) مجرد غيض من فيض لأن شهرته العلمية دقت أبواب العالم ودور البحث شرقا وغربا، ومؤلفاته أصبحت مرجعا ومنهلا لا يُستغنى عنها لمدة ما يقرب من خمسة قرون، حيث تعلم فيها الغرب الحسابَ والمعادلاتِ الجبريةَ المعقدة بعد ترجمتها إلى اللاتينية، أوأخذوها عن كتب أخرى بُنيت على كتاب الخوارزمي أو اسْتَسَنُّوا فيها منهجه في البحث والتأليف، ومنها على سبيل المثال لا الحصر كتاب (كارمن دي الجورزمو) الذي وضعه (إسكندر دي فيلادي) حوالي 1220م، وكتاب (الجورزمس فالجارس) لمؤلفه (جون أوف هاليفاكس) حوالي 1250م وكلاهما مبني إلى حد كبير على كتاب محمد بن موسى الخوارزمي.
ونؤكد في الأخير على أن المطَّلِع على كنوز المعرفة في عالمنا الإسلامي خلال عصوره الذهبية يدرك لا محالة قيمة ما تركه الأسلاف للأخلاف من أُثَالٍ أو تراث علمي نفيس اندلص بين أيدينا وران عليه الدهر فأنسانا إياه وجعلنا عالة على غيرنا بعد أن كنا رواد حضارة زاهرة شرقا وغربا .
والله ولي التوفيق.
، مفتش متقاعــــد