الدكتور عبد الكريم بوصفصاف وهاجس التأريخ/ أ. د. مولود عويمر
كان الدكتور عبد الكريم بوصفصاف المولود في فرجيوة (ولاية ميلة) في 19 أوت 1944 والمتوفى في مدينة قسنطينة في 26 نوفمبر 2017، نموذجا في العمل الدؤوب والإصرار على النجاح رغم إصابته المبكرة بالعمى، متحديا بذلك كل المعوّقات، ومنتصرا على كل المثبّطات.
حفريات في تاريخ جمعية العلماء الجزائريين:
لقد قضى الأستاذ بوصفصاف عمره المديد في التحصيل العلمي، والتدريس في جامعتي قسنطينة وأدرار، والبحث التاريخي وتأليف الكتب ونشر المقالات والبحوث خاصة ما له صلة بتاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورجالها التي أنجز حولها رسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراه.
نعم، لم يكتف الدكتور بوصفصاف عن الكتابة، ولم يتوقف عن البحث حتى آخر يوم في حياته. درس في بداية مشواره العلمي الحركة الإصلاحية الجزائرية وبخاصة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين متتبعا مسارها التاريخي، ومبرزا آراءها الدينية والاجتماعية ومبيّنا مواقفها السياسية. وهو يعتبر الباحث الجزائري الثاني الذي اهتم مبكرا بتاريخ هذه الحركة الإصلاحية على المستوى الأكاديمي وفي رحاب الجامعة. أما الرائد الأول في هذا المجال فهو الدكتور علي مراد الذي ناقش رسالة الدكتوراه حول جمعية العلماء في جامعة السوربون في عام 1967.
لقد أصدر الدكتور بوصفصاف مجموعة من المؤلفات، أذكر منها:”جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في تطور الحركة الوطنية الجزائرية 1931-1945″، و”جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعلاقتها بالحركات الجزائرية الأخرى”، و”الأبعاد الثقافية والاجتماعية في حركتي محمد عبده وعبد الحميد بن باديس: دراسة تاريخية وفكرية مقارنة”، و”ابن باديس الرمز”، و”الشيخ محمد البشير الإبراهيمي العلم المفكر والأديب الوطني المنظر”، و”رواد النهضة والتجديد في الجزائر (1889-1965)”…
ومن الملفت للانتباه أن الدكتور بوصفصاف لم يكل عن دراسة شخصية الإمام عبد الحميد بن باديس من جوانبه المتعددة، ويمكن تفسير ذلك بأن الأستاذ بوصفصاف قد أشرف على المجلس العلمي للمؤسسة الثقافية التي تحمل اسم هذا المصلح الكبير، وفي كل عام يشارك بمداخلة في إطار ملتقاها السنوي الذي تعقده في كل عام في شهر أفريل.
ولا بأس أن أذكر هنا بعض العناوين:”الأصالة والمعاصرة عند الشيخ ابن باديس”، و”دور المفكر الجزائري عبد الحميد بن باديس في مغاربية الفكر والثقافة والهوية”، و”السلم من منظور العلامة المفكر عبد الحميد بن باديس”، و”المنهج الإصلاحي في حركة الشيخ عبد الحميد بن باديس”، و”ماهية السياسة والوطنية في الفكر الباديسي”…الخ.
وعاصر الأستاذ بوصفصاف كثيرا من رجال الإصلاح، وحاورهم في مجالسهم، واستشهد بشهاداتهم في كتاباته، واستعان بأرشيفهم في أبحاثه التي اتسمت دائما بالجدية والرصانة، وتميزت بالأسلوب الجميل والعرض الشامل والتحليل العميق والتركيب المتين والاستنتاج الدقيق.
ورشـات أخـرى في التاريخ:
تنوعت اهتمامات الدكتور عبد الكريم بوصفصاف، فبعدما تخصص في تاريخ الإصلاح والمصلحين المعاصرين لعقد من الزمن، اشتغل بقضايا تاريخية أخرى في مجال التاريخ المحلي ودرس موضوعات في تاريخ الثورة الجزائرية. وهكذا، نشر في هذين المجالين كتبا ودراسات رسمت معالم هادية للباحثين تساعدهم على إماطة اللثام عن الحقائق التاريخية بتفاصيلها المختلفة.
كما اتجه نحو الدراسات الإفريقية، وهو تخصص لم يسبقه إليه إلا 3 أساتذة من الجزائر، وهم عبد القادر زبادية-وهو عميدهم- وعمار هلال وعبد الحميد زوزو، فأسس مخبرا للدراسات الإفريقية في رحاب جامعة أدرار في عام 2010، وعضده بـ “مجلة الدراسات الإفريقية”. وأشرف أيضا على تأطير عدة رسائل جامعية في هذا التخصص.
وساهم الدكتور بوصفصاف في المجلات الجزائرية والعربية، أذكر منها: “الأصالة”، و”الحوار الفكري”، و”سيرتا”، و”الشهاب الجديد”، و”المجلة التاريخية المغاربية”. وقد جمع مقالاته في كتاب مكوّن من جزأين بعنوان:”تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر”، صدر في عام 2012.
كما أنشأ مجلات علمية رصينة مثل “الحوار الفكري”، و”مجلة الدراسات الإفريقية” واستقطب إليها العديد من الباحثين المبتدئين، واستكتب الأكاديميين المعروفين وخصّهم بالتكريم مثل المؤرخ الدكتور أبي القاسم سعد الله والفيلسوف الدكتور عبد الله شريط، أو خصّهم بعرض كتبهم والتعريف بها، أذكر منهم: المفكر مصطفى الأشرف، والفيلسوف الزواوي بغورة، والمؤرخة الدكتورة بوبة مجانة.
تـكويـن المؤرخـيـن:
وبخصوص صلته بطلبته، لم يقتصر الأستاذ بوصفصاف على تدريسهم في عدة جامعات وطنية والإشراف على مذكراتهم وأطروحاتهم، وإنما كان ينظّم لهم أيضا رحلات علمية إلى جنوب الصحراء الجزائرية وإلى تونس ليتذوقوا التاريخ ويعاينوا المعالم التاريخية ويلمسوا بأياديهم الآثار ويستحضروا الماضي إلى مكانه الأصلي فتتجلى مشاهده أمام أعينهم. كما أنه لا يقتصر على الاتصال بهم في قاعة الدرس أو في ساحة الجامعة، وإنما يفتح لهم داره، ويستقبلهم فيها، ويستمع إليهم، ويتقبل أفكارهم بصدر رحب وسعة أفق.
وفي هذا السياق، أذكر هنا شهادة لأحد طلبته، وهو الدكتور رمضان بورغدة:«لقد اكتشفا أستاذا بارعا في أداء مهمته البيداغوجية والعلمية، ورجلا يتميّز بالتواضع وحسن الخلق والعفوية وروح الفكاهة مع احتفاظه بوقاره، كان مكتبه خلية نحل، فلم يكد يخلو من وجود أساتذة أو طلبة يأتون للأستاذ بوصفصاف وليس لبوصفصاف كمدير معهد، لقد كان رجلا محبوبا، حسن المعاشرة، خدوما وعطوفا، لا يرد أحدا طرق بابه، لقد كان –والله على ما أقول شاهد- كالغيث أينما نزل نفع».
وكل هذه الخطوات العلمية والبيداغوجية والتواصلية التي أشرت إليها تساهم بلا شك في تكوين المؤرخ تكوينا علميا صحيحا يزاوج بين التحصيل النظري والعمل التجريبي.
ويعمل طلبته اليوم في العديد من الجامعات الجزائرية: قسنطينة وأدرار والمسيلة والوادي… وكذلك خارج القطر الجزائري، ويواصلون رسالته العلمية والتربوية. ووفاء له واعترافا بفضله وتقديرا لجهوده العلمية أكرموه في مناسبات عديدة.
وأذكر في هذا الشأن الندوة التأبينية التي أقامتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 8 ديسمبر 2017 بنادي الترقي بالجزائر. وفي عام 2018 نشر مخبر الدراسات والبحث في الثورة الجزائرية بجامعة المسيلة كتابا تضمن شهادات وبحوثا ودراسات تاريخية مهداة لهذا الأستاذ القدير. كما احتفت المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية لولاية قسنطينة في 19 نوفمبر 2019 بالذكرى الثانية لوفاته بعقد ندوة تكريمية شارك فيها أصدقاؤه وطلبته وكذلك أفراد من عائلته.
لا شك أن هناك العديد من الدراسات التي كان يعمل عليها الأستاذ عبد الكريم بوصفصاف ولم تر النور حيث التحق بالرفيق الأعلى وهو يشتغل في عدة ورشات بحثية. نتمنى أن تجد طريقها إلى النشر لينتفع بها القُراء، أو يتمّمها طلبته الباحثون إن لم تكتمل بعد، ويصدرونها بعد ذلك ليستفيد منها غيرهم .