على بصيرة

حراك فعِراك، ودماء، فدموع في الربوع/ أ. د. عبد الرزاق قسوم

يا قارئي العزيز! تعال معي، لأبثك الأحزان، وأطارحك أشجان الأوطان، وأنقل إليك ما هو كائن، وما قد كان.

تعالى معي، إلى ربوع وطننا العربي الكبير الممتد من نجد إلى أغادير، إنه الوطن الربيعي المظهر، والذهبيّ المخبر، حيث حباه الله كل أنواع المناجم، وخصه، بألوان الغزلان والحمائم، ولكن دهاه ما دهاه، فتلبدت سماؤه بالسحب، الثقال الدكناء، وتبللت أرضه بأحزان الدموع والدماء.

لقد تبدلت في وطني العربي الجميل السواحل والشطآن، من صنعاء إلى وهران، ومن الشام إلى فزان؛ تبدلت سحنته، ودنست حريته، واغتصبت عذريته، وأبيحت سيادته وإنّيته.

سطا على وطننا العربي الغربان، فساد فيه الهول والغليان، إلى حد أن وقع العبث بالإنسان، وديست كرامة العلماء، والغلمان، والنسوان، فما كان ربيعا عربيا، استحال إلى حرب إخوان، وما كان حقا إنسانيا، طاله العدوان، وما ذلك إلى لتغشي الإستبداء والطغيان.

إن ما يحدث في الشام، وفي العراق، وفي اليمن، وفي ليبيا، لعيّنة مما يحدث في باقي الأوطان، من ظلم، وقهر، تشمئز له الضمائر والأبدان، ومما سارت بخبره الرّكبان.

لماذا نُكبنا بكل هذه المصائب والمحن؟ وكيف سلط الله علينا كل هذه الابتلاءات والمآسي؟

ذلك لأننا ابتلينا بفتنة الفساد المالي ومفسدة الكراسي، ونأينا بأنفسنا عن المبدإ الأساسي، الذي هو الإسلام النقي، الصافي والمثل القياسي.

فعندما يزج، داخل السجون، بالعلماء، وهم من خيرة الناس، وعندما نضيع المجتمع بوصلة هدايته، ورعايته، وتختلط الأخماس بالأسداس، بفسح المجال، في العلاقات والمعاملات لكل وسواس، خناس.

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [ سورة الأعراف، الآية: 175].

نقول كل هذا لنمهد به إلى ما يحدث في أجزاء وطننا العربي الإسلامي بدء بالجزائر، ووصولا إلى لبنان، ومرورا بليبيا، والسودان، واليمن، والعراق، دون إغفال أفغانستان وتركيا وإيران، وكلها تعاني محاولات زعزعة الاستقرار، وزرع العدوان بين أبناء الدار، وبين البلد الشقيق والجار.

فالحراك الذي تفاء لنا به ولا نزال في الجزائر، لأنه تميز بالسلمية، والرابطة الأخوية، والشعارات النوفمبرية الباديسية، يحاول البعض أن يحوّلوا نهره عن مجراه، ويبعدوه عن مقصده ومبتغاه، ويزرعوا الانقسام، والتفرقة، باختراع أتفه الأسباب لتحويل الانتباه.

لكن هذا الحراك الشعبي، عندما تحول إلى جزء آخر من الوطن العربي، كالعراق، ولبنان، وليبيا، ومصر، تحول إلى قتل، وسحل، وإلى نهب وغصب.

ليت حكّام بلداننا ، يتحلّون بالحكمة وحسن الإصغاء لمطالب الشعوب! وليت شعوبنا تتسم بالوعي، والحس الوطني، فتجنب بلدانها محن الكروب، والوعر من الدروب!

إن طريق الخلاص واضح لكل ذي عينين، وإن إنقاذ الوطن، سهل، على كل من ألهمه الله، السير على بصيرة، ودون ميل أو مين.

إن الوطن يتسع لجميع  أبنائه، وإنه يزداد اتساعا بالتسامح وأدب الاختلاف، ويضيق بالتعصب، وفقد الائتلاف. فالديمقراطية التي يتشدق البعض بها، هي الحق المكفول للجميع، في أن يقول نعم، أو أن يقول لا، عن قناعة، وخدمة للمصلحة الوطنية العليا بعيدا عن الإيديولوجية المنغلقة، والحزبية المتعصبة، والطائفية المقيتة، والعمالة لأية أجندة خارجية خبيثة.

أما جبر الناس على الرأي الواحد، باسم التغيير، واللجوء إلى التكفير، أو التخوين، أو التعزير فذلك –والله- لهو المنكر الخطير،  والتشويه والتقزيم لكل أمر عظيم وكبير.

لقد أدبنا القرآن فأحسن تأديبنا حينما علمنا قول الله تعالى ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [ سورة سبأ، الآية: 24].

فيا قارئي العزيز!

أرأيت كيف أن الداء يكمن فينا، وإن ما أصابنا فهو بما كسبت أيدينا، وإن ذلك لتعبير عما نعانيه، حكاما ومحكومين، من ضيق أفق عقلي، ومن أمية سياسية، ومن تخلف حضاري، وكلها آفات لا تساعد على التغيير، ولا تساهم في الإصلاح، ولذلك، سلط الله علينا أعداء من خارج أنفسنا، فهم يسوموننا سوء العذاب، وهم يلحقون بنا الهزائم تلو الهزائم.

إن التعصب الجماهيري، مقدمة سيئة نحو الاستبداد العام الأسوأ، وإن عدم التقيد، بأدب الاختلاف، لا يقود إلا إلى المحن والفتن، وإلى خراب الأوطان، وانهيار الإنسان، والعمران.

إن وطننا العربي الكبير، بدء بالجزائر، مطالب – إذن- بأن يعيد النظر في منظومة ائتلافه واختلافه، فيلتزم بالأدب الإسلامي، الإنساني، كما هو الشأن في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [ سورة فصلت، الآية: 34 ].

ويلتزم بأدبيات الثقافة الإسلامية الحضارية كما في قول الشاعر القديم:

وإن الذي بيني، وبين بني أبي

             وبين بني قومي لمختلف جدا

فإن أكلوا لحمي حفظت لحومهم

            وإن هدموا مجدي، بنيت لهم مجدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم

          وليس عظيم القوم من تحمل الحقدا

إنها دعوة، إلى كل مثقف في وطننا الصغير والكبير، وإلى كل مواطن عاقل، ذكرا أو أنثى، أن يتقوا الله في الوطن، فينأوا به عن كل خطاب تحريضي، أو سلوك تقويضي، فالوطن هو الباقي، ولا بقاء له، إلا بالقيم السليمة، والمبادئ القويمة، وبذلك يضعوا حدا للدماء والدموع في الربوع.

يكفي أوطاننا ما تعانيه على أيدي الأعداء وهم كثر، فلا نزيد الطين بلة من ذوي القربى.

 وظُلم ذوي القربى أشد مضاضة         على النفس من وقع الحسام المهتد.

إننا مقبلون على امتحانات صعبة فليحمل كل واحد منا، هاجس هذا الوطن، وليتسلح بالوعي المنشود، والسعي المحمود فالعافية للمثقفين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com