ربانية وإنسانية/ د. عبد العزيز كحيل
المسلمون يسيّرهم الوحي من جهة وتسيّرهم قلوبهم وعقولهم مثل جميع البشر من الجهة الأخرى، ذاك هو النسب الرباني وهذا الانتماء الإنساني، ولا يكتمل إسلامهم إلا باستقامة هذه المعادلة واستوائها على التصوّر النظري والواقع العملي.
المسلم الذي يُخرجه كتاب الله وسنة رسوله يكون جامعا بين الربانية والإنسانية، صالحا، نافعا في الدنيا مفلحا في الآخرة، مجاهدا لنفسه شاهدا على غيره، فإذا أصيبت معادلة الربانية والإنسانية بخلل ما انعكس ذلك سلبا على المسلم ومشروعه كله، فلا مكان لرهبانية باسم الربانية، ولا مكان لعلمانية باسم الإنسانية، لأن المعادلة الشرعية المحكَمة تتيح التماس الايجابيات والمحاسن على كل المستويات في انسجام متوازن يحصّن من التبعيض والتشتّت سواء في التصوّر أو التكوين أو السلوك بالنسبة للفرد والمجتمع.
يستمد المسلم من نفخة الروح الأولى نسبه السماوي الذي يورثه العبودية لله وما تقتضيه من إخلاص وخشية وخوف ورجاء وتوكّل، فيكون صاحب قلب سليم ونفس زكية وذهن صاف، ويتقلّب بين المشاعر الرقيقة الجياشة والأفكار الحية القوية النابعة من تفاعله المتواصل مع القرآن والسنة واتّصاله المتجدّد بالملأ الأعلى، ويستمدّ من قبضة الطين بُعده الإنساني الممتدّ طولا وعرضا وعمقا مع الكون ومن فيه وما فيه، فهما وتآلفا وتعارفا، لأنه بُعد يؤصل لعلاقات ودّ وتعاون وتناغم مع محيطه بكل مكوّناته بناء على وشائج العقيدة والدم والأرض والبنوّة لآدم والعبودية لخالق واحد اقتضت حكمته أن يجعل من الاختلاف سنّة تحكم الحياة ولأحياء لتكتمل صورة التنوع الإيجابي والتعاون المتعدّد الأشكال الضروري لتوفر شروط العيش المشترك بين الجميع في أرض الله وفق سنن الله.
إذا تحرك هذا المسلم بمعادلة الربانية والإنسانية كان هو الإنسان النموذج والقدوة للبشرية المشرَئبّة العنق تطلّعا للدليل الثقة الحجّة في طريق الحياة الحائرة بين الفلسفات والتصوّرات المتشعبة الدروب، وتلك هي وظيفته بمقتضى ميثاق الإيمان والبيعة لله ورسوله.
هذا الإنسان يجب على الأمة أن تنشئه تنشئة جديدة وتبعثه بعد غياب عن الشهود الحضاري طال أمده.
في التصوّر الإسلامي الوحي لا يختص بجانب العقدية والعبادة فقط، والإنسانية ليست انقطاعا عن الوحي واستئثارا بشؤون الحياة الدنيا، فنصوص القرآن والسنة تتناول هذه وتلك، كما تأخذ بالاعتبار الموروث الإنساني في مجالات الإبداع والاستكشاف والاختراع والتقدم العلمي والعواطف والأحاسيس ونحو ذلك.
المسلم –الفرد والأمة– متميّز بإتباع المنهج الرباني في حياته الفردية والأسرية والاجتماعية، لكن هذا لا يقطعه عن البشر مهما كان دينهم، لديه عقل يفكر مثلهم ولديه قلب ينبض مثلهم، هذه الإنسانية تشمل الجانب البشري أي استخدام العقل، كما تشمل البُعد الإنساني أي الرابطة الطبيعية الناشئة عن الأخوة في الدم والتراب وما تحويه من مشاعر طيبة هي قاسم مشترك بين البشر الأسوياء.
هل نعطل الجانب البشري لأن غير المسلمين يشاركوننا فيه كما ترى المدرسة التراثية الحرفية المتشنجة التي ألفت التقوقع والقراءة النصية الحرفية الغليظة للقرآن والسنة؟ سنكون إذًا خاسرين على طول الخط لأن الحضارة هي تراكم الأفكار والانجازات البشرية كلها، نضيف إليها مقاييسنا الدينية المتميّزة التي تستبعد ما خالف الشرع فقط، وتحتضن كل ما هو إرث بشري نافع.
وهل تقتضي مرجعيتنا الإسلامية مقاطعة الأمم والشعوب غير المسلمة رغم منحاها الإنساني وانخراطها في عمل الخير وإشاعة مشاعر الرحمة والعطف والشفقة والإحساس بآلام الناس وآمالهم؟ هذه المرجعية بذاتها هي التي تدفعنا دفعا إلى العناية بالجانب البشري والانخراط في البُعد الإنساني لأن هذا بالضبط مقتضى الربانية، كلّ هذا ونحن على صلة وثيقة بالله تعالى في نشاطنا الدنيوي –الفردي والجماعي– كما في أعمالنا التعبدية لأنه لا يجوز أن نعتمد على أنفسنا وننسى الله، بل نبذل كل وسعنا، نعطي أقصى ما يمكن ونتوكل على الله، هو الناصر والموفق، إذا كان معنا فمن يغلبنا؟ الدنيا مبنية على الأسباب لكننا نعبد الله الذي يتحكم في هذه الأسباب ابتداء وانتهاء.
ثم صلتنا نحن البشر بآدم عليه السلام صلة علم: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (سورة البقرة الآية 31) فإذا قلّ العلم كانت الصلة بآدم واهية وضعف الجانب الإنساني وتحوّل الدين إلى مجرد مراسم، وإذا توفر الذكاء مع الخواء الروحي غدا الدين مجرد مصيدة للغنائم (كما يقول الشيخ محمد الغزالي)، وإنما ينتصر الدين وتزكو الحياة بوجود “الإنسان السوي” صاحب التفكير الصحيح والمشاعر الفياضة والسلوك القويم.
بقي أن نشير إلى فرق كبير يباعد بين الرؤية الإسلامية والفلسفة الغربية لقضية الجانب الإنساني، فالفكر الغربي يعظّم الإنسان كنهاية لا تحتاج إلى عنصر من خارجها، يركّز على قيمة الإنسان وعمله وقدرته اللامتناهية على الإبداع والاختراع، لهذا هو يؤلهه ويستبعد الدين ويعدّه عائقا يقزّم الإنسان، وهذا أدى بدوره إلى تقديس القوة وأفضى إلى “شوفينية إنسانية” مقيتة سمحت للغربيين باستغلال الشعوب وسحقها، أما الفكر الإسلامي ففيه الإنسان العبْد لله، له دوره وإمكاناته في العلوم والفنون والحياة الأخلاقية… وهذه هي الإنسانية الجميلة المعتدلة البناءة.