بين السياسة الشرعية والسياسة الشوارعية/ محمد مكركببين السياسة الشرعية والسياسة الشوارعية/ محمد مكركب
السياسة فن القيادة، وعلم الاستخلاف، موضوعها عمارة الأرض، بعلم رسالة السماء، ليعيش أهل الأرض لعبادة خالق السماء والأرض. والسياسة الشرعية هي التي تحترم هذه النظريات، (نظرية الاستخلاف برسالة السماء) فإذا حادت عن هدفها كانت سياسة شوارعية. (سياسة المكاسب والشهرة والمناصب، بلا مراقب، ولا محاسب) فالسياسة الشرعية قوامها التلازم بين السنن الكونية، والسنن الشرعية، تعتمد الشورى العلمية، وهدفها خدمة الرعية، يولّى فيها أهل العلم والحفظ والأمانة، أما السياسة الشوارعية فقوامها الوعود بلا حدود، وأهواء بلا قيود، تعتمد الاستبداد، والاستعباد، يولّى فيها أهل العصبية، والانتهازية.
العمل السياسي كل مهمَّةٍ تتعلق بإدارة مرفق، أو مؤسسة، أو جماعة، أو شركة، أو جامعة، كمدير مديرية، أو رئيس بلدية، أو والي ولاية، أو مدير جامعة، أو شركة، أو رئيس جمعية، وغيرها. هذا فيما يخص الاصطلاح، أما المعنى العام للسياسة ففي كل علاقة بين اثنين فأكثر، حتى قيل إن علم السياسة هو علم الإنسانية.
وهاهو الخليفة الأول الراشدي الأول يحدد منهجه السياسي، ويبين كيف يتعامل السياسي الحكيم مع الرعية بالروح الإيمانية، والشورى العلمية، لا بالعقلية الاستبدادية.فقال:” أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، وليست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع إليه حقه، إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله” [كتاب تاريخ الخلفاء.السيوطي].
هل هذه الخطبة السياسية خاصة بأبي بكر في زمانه، فحسب؟ أم هي وصفة حكيمة لكل مسئول ورئيس دولة، اليوم، وإلى يوم قيام الساعة؟ إنها المنهجية الحكيمة التي تلزم كل حكم، ووال، وأي أمير، إلى يوم القيامة.
وأول مسؤولية تقع على السياسي ليكون سياسيا شرعيا ربانيا، أن يعلم شريعة الله تعالى، ويعمل بها، ويعلمها للرعية. ويروى عن أهل الصلاح من السياسيين الماهرين، ومنهم عمر بن عبد العزيز، كان يقول لولاته الذي عينهم على رأس الولايات من أهل العلم والإيمان:[ إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ، وَشَرَائِعَ، وَحُدُودًا، وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ](البخاري. كتاب الإيمان). من هنا تبدأ المنهجية السياسية الشرعية.لأن عمر بن عبد العزيز كان سمع وتعلم من سياسة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام. الذي قال، ما روته عنه أمنا عائشة رضي الله عنها، وهي تتحدث عن السياسة الشرعية.عن عبد الرحمن بن شماسة، قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئا، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، ويحتاج إلى النفقة، فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي، أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في بيتي هذا:[اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ] (مسلم. كتاب الإمارة).
هل قرأ رئيس البلدية، والوالي، والوزير هذا الحديث؟ وهل علم أن المشقة المنهي عنها، هي أن يصيب أحد الرعية حزنا على ضياع حق، أو نقص حاجة؟ والميزان أن يحقق لكل فرد من الرعية ما يتمتع به هو، وإلا عاش في مستواهم، وشاركهم معيشتهم. ولذلك كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا يشبع حتى تشبع الرعية، ولا يأكل اللحم حتى يتيسر لكل الرعية، ولا يتنعم بالكماليات حتى يُطْعِمَ كل الفقراء.
قال محاوري: اليوم أحاورك من موقع الواقع. قلت: ماذا تعني؟ قال: أنا شخصيا ابتلاني الله بمسئولية رئيس بلدية، بهذه الأمانة العظيمة، فما هو المطلوب مني؟ قلت: أولا: أن تكون حفيظا عليما. كما قرأت عن يوسف عليه السلام.﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ قال: ولكن هذا بالنسبة للوزير والرئيس. قلت: هذا لكل مسئول من رئيس مصلحة إلى رئيس الدولة. وأن تكون قويا قادرا على إعطاء كل ذي حق حقه كاملا، من السكن، والماء، والكهرباء، والطريق، والعلاج، والمدرسة، والوظيفة. قال: ومن يقدر على هذا؟ قلت الجواب عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كيف؟ قلت ما جاء في الحديث.عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ ( ألا تجعلني رئيس بلدية أو والي ولاية، أو وكيل وزارة)؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: [يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا](صحيح مسلم. كتاب الإمارة).
قال محمد فؤاد عبد الباقيفي شرح هذا الحديث:
قوله:[إنك ضعيف وإنها أمانة] (هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، أي في الابتعاد عن المسئوليات) لاسيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلا لها أو كان أهلا ولم يعدل فيها، فيخزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه ويندم على ما فرط.
وكذا المفتش، والنائب، والأمين (الكاتب العام) والمستشار، كل يحاسب على نفسه، وعلى من هم تحت رئاسته ومسئوليته. قال الله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ وفي الحديث:[مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ](البخاري.كتاب النكاح) وفي حديث آخر:[مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ] كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه. يقول:( لو أن ناقة عثرت بأرض العراق لخشيت أن يحاسبني الله عنها). وكان يقول:( وقوت أهلي كقوت رجل من قريش، ليس بأغناهم وليس بأفقرهم، ثم أنا رجل من المسلمين، يصيبني ما أصابهم) وكان رضي الله عنه لا يشبع حتى يشبع الفقراء. ومن توجيهاته السياسية، خطب يوما فقال:( أيها الناس، إني لم استعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، وليشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة، ليرفعها إلي حتى أُقِصّه منه).(كتاب العشرة المبشرين بالجنة.لـ:عبد الستار الشيخ.ص:88).
قال محاوري: وبما أن المسئولية مراتب، فهل إذا أمر المسئول الأعلى مرتبة، من يليه من المسئولين بما يخالف الحق فهل يعذر الْمُنَفِّذ للأمر بأن مسئوله أمره؟ إن الجواب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.ورد في صحيح مسلم، في كتاب الإمارة، في باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: [عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ] (مسلم. كتاب الإمارة).
فحرام على المسلم أن يوقع، أو يشهد، أو ينفذ، ما فيه معصية. أرجوك اقرأ وافهم هاتين الآيتين، وإياك أن تعرض عنهما، أو تستصغر شأنهما في السياسة، بل في كل حياتك، في العقيدة، والعبادة، والسياسة، والأخلاق. قال الله تعالى:﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لاتُنْصَرُونَ﴾[هود:112/113] في هذا أمر بوجوب اتباع النصوص الشرعية في الأمور الدينية، من عقائد، وعبادات، وكذا في الأمور السياسية، فيما هو منصوص عليه، من قضاء، ومالية، ومعاملات، واجتناب الرأي بالهوى، وبطلان التقليد والعصبيات، وأما الاجتهاد في مجالاته، وبشروطه، وأدواته، فأهلا ومرحبا به، من قبل العلماء المجتهدين .