تأملات بصائرية في الانتخابات الجزائرية/ أ. د. عبد الرزاق قسوم
يُقدم الجزائريون والجزائريات على موعد الاستحقاقات الرئاسية القادمة، وفي أجسادهم رعشة، وفي عقولهم دهشة، فهم بين الرغبة والرهبة منقسمون.
ذلك أن الانتخابات الجزائرية المقبلة تتراءى للبعض، بمثابة غابة الأدغال، فيها الأسد القاتل، وفيها السِّنّور المقتول، وفيها النمر الكاسر، وفيها الضبع المكسور.
ولو تحدثنا بلغة النحويين، لقلنا أن الانتخابات الرئاسية القادمة، تتميز بالاشتغال والتنازع، إذ نجد فيها الاسم الممنوع من الصرف، وفيها جمع التكسير، وفيها صيغة منتهى الجموع، وفيها الاسم المجرور، والاسم المنصوب، والاسم المرفوع.
من هنا جاءت الرغبة عند البعض وجاءت الرهبة عند البعض الآخر، فالرغبة مبعثها التفاؤل بمستقبل زاهر، تمثل الانتخابات فيه بداية نهاية المعاناة؛ في حين تأتي الرهبة لدى البعض الآخر، بسبب أن عقودا عديدة من التجربة الجزائرية، طبعت هذه الانتخابات من حيث القوائم، والمراقبة، وإعلان النتائج، طبعتها بالتزوير، والتبذير، وسوء التفسير.
فلم تعرف الجزائر حسب تحليل المنصفين المؤرخين انتخابات نزيهة إلا انتخابات الاستفتاء على الاستقلال الوطني، والانتخابات التشريعية الملغاة في التسعينات، من هنا تأتي الرهبة؛ إذ أن اختلاط الحابل بالنابل في القوائم، جعل الأموات -وقد شبعوا موتا- يرحمهم الله يصوّتون، وأحياء مغمورون يصوتون في أكثر من مكان، وعلى أكثر من مترشح إنسان.
لكن في المقابل، توجد الرغبة في التصويت، لأن الاستحقاقات تتم في عهد الحراك الشعبي الوطني الميمون، وفي شفافية ما أثبتته الهيئة المستقلة للانتخابات التي أبطلت كل الطعون بالحجة والبرهان المضمون.
كما أن بصيص الأمل في إمكانية نزاهة الاستحقاقات القادمة، يكمن في كون فرسان الرئاسة، عاقدون العزم على التصدي، بالتكسير لكل محاولات التزوير.
فإلى أين ستميل الكفة، وما هو الميزان المستقيم الذي سيحسم في مستقبل الاستحقاقات؟
إننا من وحي هذه المعطيات كلها سنخضع الاستحقاقات لبعض التأملات، حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود فيما هو آت.
نحن بدافع من التفاؤل، وإيمانا منا بطيبة الإنسان الجزائري، وأصالة طينته، نعتقد أنه بالرغم من عدم توفر سلامة المقدمات، فقد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
فلو أراد المعارضون للانتخاب إحداث الجو المناسب، لأعدوا له العدة، وما العدة إلا ترشيح المرشح التوافقي، النابض بقلب الحراك، والذي يمكن أن تجتمع عليه كلمة الجميع، لكن الحراكيين فشلوا في أول اختبار مصيري لهم “والصيف ضيعت اللبن” كما يقول المثل العربي.
غير أننا بالرغم من كبوة الجواد هذه يمكن تفادي الوضع، ولو أقدم الجميع على التصويت لأمكن إحباط كل محاولة للتزوير، ولأمكن اختيار الأقل سوء في معركة المسير، والكمال لله.
ثانيا، إن الحسم في الاختيار يجب أن يقوم على البرامج لا على الأشخاص في الأخذ بالاعتبار.
ثالثا، إن حسن الاختيار يفرض علينا أن نخضع المرشح للتحليل، في الحسب والنسب، وفي الماضي، وفي الحاضر، وفي المواقف السلوكية، من الثوابت والنوابت، وفي حسن الاستقامة، والكفاءة المستدامة.
رابعا، ما هي المسافة التي تفصل كل مترشح عن تجربة العصابة، ومن مسافة الأصالة، والاستغراب، والقرابة؟
خامسا، ما مدى تحلي المترشح الذي سيحكمنا من حيث علو الهمة، وسلامة الذمة، والتمسك بدين وأخلاق الأمة؟
هذه – إذن – عينات، من المعايير التي نضعها في عقل المواطن، كي يقوم من خلالها بعملية الفرز في الاستحقاق، بين الرفاق. فما يشترط في قيادة الدولة، هو ما يشترط في إمامة الأمة..
كلاهما، ينبغي أن يتمتع بحرية الفكر وجميل الذكر، وغير ذي فسق، وله مصداقية في المجتمع، بحيث يقتدي في سلوكه، ومعاملاته، في قيادته للأمة.
كما أن البطانة التي تحيط بالمترشح كفيلة بأن تقدم لنا ضمانا على حسن التوجه، بحيث يمكن الاطمئنان على رجاحة عقله، وضمانة عدله، ودلالة نسله.
فيا بني وطني!
ها هي الجزائر أمنا، قد ألقت بمصيرها على كواهلنا، وهي أمانة في أعناقنا وفي ضمائرنا، وقد أنصت التاريخ لتسجيل ما نحن فاعلون.
﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾[ سورة النساء، الآية: 19 ].
إن الانتخابات كالامتحان، شر لابد منه وبإمكاننا أن نحوّل الشر إلى الخير، متى توحدت كلمتنا، وتعززت وحدتنا، وجعلنا مصلحة الجزائر العليا فوق أية مصلحة نُصب أعيننا.
إن على أبناء الحراك، وهم فتية آمنوا بربهم وبوطنهم، وزدناهم هدى وسلامة. إن على هؤلاء أن يتخذوا من الاستحقاقات القادمة، فرصة للتغيير على ما في الظرف الحالي من سوء تقدير.
فالإرادة الشعبية متى خلصت، وسلمت تستطيع أن تجعل الصعب سهلا، خصوصا إذا أقدمت بوعي، وأحسنت الخطوات في السعي، وحادت بالجماهير الشعبية عن الفساد والبغي.
إنه لا يخفى على كل ذي عقل، وذي بصيرة خطورة التحديات التي يواجهها وطننا، وحجم المؤامرات التي تحاك ضد وحدتنا ونهضتنا، وتحقيق نصرتنا، والنهوض من كبوتنا.
فحذار أن نسقط في الامتحان القادم سواء بالعزوف عن المشاركة، أو بسوء الاختيار، ذلك أن سيف التاريخ لا يرمم، وقد أعذر من أنذر.
وكما يقول الشاعر المفدَّى مفدي زكريا:
وما السياسة ضرب فوق مائدة
إن السياسة، بنيان وتشييد