مــــع عشـــر ذي الحجـــة/ يوسف جمعة سلامة

الحمد لله، له أسلمت، وبه آمنت، وعليه توكلت، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد؛
نحن على أبواب شهر ذي الحجة الذي حباه الله بفضلين عظيمين: فهو من الأشهر الحُرُم التي لها مكانتها في ديننا الإسلامي الحنيف، كما أنه من أشهر الحج التي تتدافع فيها مواكب الإيمان وضيوف الرحمن إلى بيت الله الحرام، ومع إطلالة هلال هذا الشهر من كل عام يعيش المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في ظلال أيام وليالٍ مباركة أقسم الله بفضلها وشرفها وعلوّ منزلتها وقدرها، إنها العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، فهي أيام لها في دين الله سبحانه وتعالى شأن عظيم وذكر كريم، ففيها يعيش ضيوف الرحمن الذين جاءوا من كل فج عميق أجواء روحانية تخفق لها القلوب ويهتزّ لها الوجدان.
فضل عشر ذي الحجة في القرآن والسنة
لقد وردت آيات عديدة في القرآن الكريم تتحدث عن فضل ومكانة الأيام العشر من شهر ذي الحجة، منها:
* قوله سبحانه وتعالى:{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}.
– قال الإمام القرطبي في تفسيره: ” إن الليالي العشر التي أقسم الله بها هي: العشر الأوائل من شهر ذي الحجة).
– وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – : “والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة، كما قاله: ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف”.
– وقال الإمام الشوكاني – رحمه الله – : ({وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، أي ليالي عشر من ذي الحجة).
* وقوله سبحانه وتعالى أيضا:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية السابقة: (عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: الأيام المعلومات أيام العشر).
كما وردت أحاديث عديدة تتحدث عن فضل ومكانة الأيام العشر من شهر ذي الحجة، منها:
* أخرج الإمام الترمذي في سننه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله– صلى الله عليه وسلم – : (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وََلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ- رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : وََلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشَيْءٍ)(7).
* كما أخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله– صلى الله عليه وسلم – : (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ).
أفضل الأعمال فــي هـذه الأيـــام :
من الأعمال التي ينبغي العناية بها في هذه الأيام المباركة :
أداء الحج والعمرة
إن الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو فرض واجب على المستطيع، حيث إنه يُكَفِّر الذنوب لقوله – صلى الله عليه وسلم -:(مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، وقوله – صلى الله عليه وسلم – أيضا: (الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ).
كما أن أداء العمرة مستحبٌ في أشهر الحج، مصداقاً لقوله – صلى الله عليه وسلم – : (العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفّارةٌ لِمَا بيْنَهُما…).
الصيام
إن صوم هذه الأيام المباركة من شهر ذي الحجة مستحب، كما جاء في الحديث الشريف : (كَانَ رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ) .
الإكثار من العمل الصالح
العمل الصالح مطلوب من المسلم في كل زمان ومكان وخاصة في هذه الأيام من شهر ذي الحجة؛ لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ…) .
فأعمال الخير في هذه الأيام أحب إلى الله سبحانه وتعالى من العمل فيما سواها من الأيام، وهذا ليس مقتصراً على الحج إلى بيت الله الحرام، بل يشمل جميع العبادات وأفعال الخير مثل: الصلاة وتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه وتعالى والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الرحم وبر الوالدين وزيارة المرضى.
يوم عرفة
يوم عرفة هو اليوم المشهود الذي أكمل الله – سبحانه وتعالى- فيه الدين، كما أن صيامه يُكَفّر آثام السنين، وجاء في فضل يوم عرفة، أنه أكثر الأيام خيراً وبركة؛ لما ورد في فضل صيامه أنه يُكَفِّر الذنوب العظام، وتلك نعمة من أجلّ نعم الله – سبحانه وتعالى- على عباده، لقوله – صلى الله عليه وسلم – : ” …صَوْم يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ” .
الأضحية
من فضائل هذه الأيام العشر ما شرعه ديننا الإسلامي الحنيف من نحر الأضاحي يوم عيد الأضحى، لذلك نرى المسلمين في هذه الأيام يستعدون لشراء الأضاحي استجابة لسنة أبينا إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، وللنداء النبوي: (مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ)، كما يُسْتَحب للمُضَحِّي ألا يأخذ من شعره شيئا، لقوله –عليه الصلاة و السلام-: (إِذَا دَخَلَ الْعَشر وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَأْخذ مِنْ شَعرِهِ وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئاً حَتَّى يُضَحِّي)(15)، والحكمة من ذلك أن تعمّ المغفرة جميع الجسد.
كلمات رائعة في العشر الأوائل من ذي الحجة
* قال الإمام ابن حجر – رحمه الله- في كتابه “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” : (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتي ذلك في غيره).
* وَسُئِلَ شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ( عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان ، أيهما أفضل؟ فأجاب: أيامُ عشر ذي الحجة أفضلُ من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة).
قال ابن القيم: وإذا تأمل الفاضلُ اللبيب هذا الجواب، وَجَدَهُ شافياً كافياً، فإنه ليس من أيامٍ العمل فيها أحبُّ إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيها: يومُ عرفة، ويومُ النحر، ويومُ التروية.
وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإِحْيَاء، التي كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُحْييها كلَّها، وفيها ليلةٌ خير من ألف شهر، فَمَنْ أجابَ بغيرِ هذا التفصيل، لم يُمْكِنْهُ أن يُدْلِىَ بحُجَّةٍ صحيحة).
وقد أقسم الله – سبحانه وتعالى – بهذه الليالي العشر، وهذا دليل واضح على عظمتها وشرفها.
أخي المسلم: عليك الإكثار من الأعمال الصالحة – من صلاة وصيام وزكاة وحج-، فَيَا لَهَا من أيّامٍ مباركة عند الله عزَّ وجلَّ، الأعمال الصالحة فيها مضاعفة، والثواب كبير، فصيام يوم منها يعدل صيام سنة، كما جاء في الحديث: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ).
نسأل الله العلي القدير أن يجعلها أيام خير وبركة على سائر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.