التربية والسياسة في ميزان القرآن وقيم الإيمان/ محمد مكركب
من الأعمال التي لا تقبل التجريب، ولا التردد، ولا الظن، ولا التسويف، ولا التجزيء: الإيمان بالله تعالى، وعبادة الله بما شرع، والتربية والتعليم، والسياسة الشرعية العامة، أي سياسة بناء الدولة. ونوضح من البداية أن الذي يحفظ المسلم ويحفظ مجتمعه أن يكون على بصيرة، ويتحرك في أضواء البرهان المبين، بالعلم، والحكمة، والشورى، والتقويم بعد كل خطوة. فالعصمة من مخالفة الحق اتباع الكتاب، والسنة النبوية، والاستئناس بعمل العلماء المصلحين، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:44)
ونخصص هذا المقال للكلام عن التربية والتعليم، وعن السياسة العامة لإدارة شؤون الدولة بميزان القرآن وقيم الإيمان. لماذا يتلازم الكلام في موضوع الدراسات والبحوث عن التربية والتعليم والسياسة الشرعية؟ لأن التربية والسياسة أمران متلازمان رفيقان لايفترقان، ولأن النجاح في التربية نجاح في السياسة، والنجاح في السياسة نجاح في التربية، والعكس صحيح، فالفشل في أحدهما فشل في الثاني، وما تخلفت الشعوب الضعيفة في السياسة والاقتصاد والدفاع، ونشوب الصراعات السياسية، بل وأحيانا الحروب الأهلية، إلا لأنها متخلفة في مناهج التربية والتعليم، وما تخلفت في التربية والتعليم إلا لأن أمر سياستها بيد من لا يفقهون السياسة.{لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم…ولا سراة إذا جُهَّالُهُم سَادُوا} قال أحد الناقدين السياسيين المعاصرين {عيب أن يكون في مجلس الشورى في بلد مسلم من لا يحفظ ولا يفقه سورة الشورى، فبماذا يسوسون أهل الإيمان إذا لم يفقهوا شريعة القرآن؟ وما محلهم من الإعراب في البرلمان بغير فقه أحكام القرآن؟}
يحدث الظلم والخراب والفساد عندما يغيب العدل، وسبب غياب العدل تدهور حال السياسة، وفساد السياسة بفساد التربية والتعليم. من بين أكبر المواعظ التاريخية التحذيرية، قول الله تعالى﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ *ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ [سبأ:15/17]. لماذا عاقب الله عز وجل قوم سبأ؟ وهم منذ قرون في حروب وشقاء، لأنهم أعرضوا عن شريعة الله تعالى، والواجب على المشرفين على التربية والتعليم أن يتعلم الأجيال الشريعة في المدارس، وأن السياسة الشرعية هي العمل بأحكام الشريعة، أي أن الحكام يُعَلِّمُون الأفراد الشريعة ويلزمونهم بها، ويحكمون بها.. وإليكم بيان أركان السياسة التربوية والسياسة الشرعية؟
1 ـ أركان السياسة التربوية: متمثلة في القيم الإيمانية الكبرى لنهضة تربوية شاملة وسليمة، والتي نسميها أركان السياسة التربوية. الركن الأول: تعلم الإيمان أن تكون المادة الرسمية الأولى في مناهج التربية والتعليم، لأن الله تعالى أمر بذلك وهذا وحده كاف لاجدال فيه. الركن الثاني: تعلم الشريعة، الحلال والحرام، والأمر والنهي وبهذا أمر الله تعالى أيضا. الركن الثالث: تعلم الآيات الكونية من القرآن الكريم تعلم الوسط الطبيعي، ومنه سائر البحوث العلمية. الركن الرابع: تعلم اللغة، واللغة الرسمية التي هي الركن الأساس في التعليم في البلدان الإسلامية عامة هي اللغة العربية، لأنها لغة الرسالة السماوية ولغة العبادة ولغة الشريعة ولغة الكون. ولتكون اللغة العربية كركن في التربية والتعليم يجب تعلمها وإتقانها والتخاطب بها، والتعليم كل التعليم بها لا بغيرها. الركن الخامس: تعلم العلوم الحضارية كالحساب وسائر العلوم المتوارثة من تجارب الباحثين، في الطب والفيزياء والكيمياء والفكر والتاريخ وغير ذلك. الركن السادس: وحدة المنهاج والمضامين لكل أبناء الأمة، أي أن هذا الركن يقتضي أن كل المواطنين والمفروض كل الشعوب تتعلم نفس المضامين.
وعملا بهذه الأركان يكون الجيل من المنتفعين برزق الله ومن الشاكرين كما أمر الله تعالى. ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ لماذا نجح يوسف عليه السلام في إخراج مصر من أكبر وأخطر الأزمات في التاريخ؟ لأنه كان حفيظا عليما، لأنه كان على قدر كبير من العمل بأركان التربية والتعليم. ولماذا عاقب الله أهل سبأ لأنهم لم يشكروا، وأعرضوا عن أمر الله واتبعوا أهواءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ وبالسياسة التربوية الحكيمة نعلم الأجيال كيف تشكر الشكر العملي، بعد الشكر بالقلب، والشكر بالحمد، يأتي الشكر باستثمار النعم، كما أمر الله تعالى في قوله: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[البقرة: 195].
2 ـ أركان السياسة الشرعية لإدارة شؤون الدولة بما أمر الله: وليست السياسة بأن يتبع كل مُتَسَلِّطٍ هواه، والبداية من فهم الآية الكريمة:﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾[النساء:58].
هذه الآية وإن كانت عامة لكل المؤمنين فإنها خاصة للأمراء والرؤساء والسلاطين. ورد فيها الأمر بحفظ مصالح كل مواطن، واعتبرت المصالح الخاصة والمصلحة العامة للدولة أمانات، يسأل عنها الحاكم، ولا عذر له إذا ضيعها، فأي حق يضيع وأي خطأ تربوي أو اجتماعي أو اقتصادي أو دفاعي يسأل عنه الحاكم، ذلك أن الرعية وديعة الله عند سلطانها وأن الله تعالى سائله عنها، فالإمام راع ومسئول عن رعيته.
الركن الأول من أركان السياسة الشرعية: الحكم بما أنزل الله. عملا بقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾[المائدة:48].
الركن الثاني: الشورى العلمية، أي استشارة العلماء المؤمنين المجتهدين في كل العلوم الشرعية والاقتصادية والهندسية وغيرها. عملا بقوله تعالى:﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159]. وقلت: الشورى العلمية لأنه في بعض مجالس الشورى لدى بعض الشعوب العربية في مجالسهم النيابية (كما يسمونها)، يرشحون لها المنتسبين للأحزاب السياسية والمنتسبين للموالاة، والملأ من ذوي النفوذ، وقد يكون بعضهم لا يفقهون في السياسة ولا في شئون الدولة شيئا، وإنما يُجْلَسُون للتأييد والتصفيق ( تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْل الرَّأْي مَا صلحت … وَإِن تولت فبالأشرار تنقاد) فإِذا كان الرأي عند من لا رأي له، والسلاح عند من لا فقه له، والمال عِند من لا تدبير له ضاعت الأمور، وبهذا ضاعت أمور الشعوب العربية.
الركن الثالث: تولي المؤمنين الأكفاء المتخصصين في مناصب التسيير: من الشباب المتمكنين، وعدم تولي غير المؤمنين، أي: عدم الاستعانة بغير المؤمنين، في أي منصب تربوي أو سياسي أو أي مرفق من مرافق التسيير في مؤسسات الدولة. عملا بقول الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ﴾[آل عمران:118)D.
الركن الرابع: إقامة مؤسسة الأمر بالمعروف: عملا بقول الله تعالى:﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:104].
ففي الأثر من قاموس الوعظ والإرشاد النبوي في السياسة الشرعية:{أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة رجلٌ أشركه الله فِي سُلْطَانه فجار فِي حكمه. ومن استرعاه الله رعية فَلم يحطهَا بنصيحةلم يرح رَائِحَة الْجنَّة} ومن تجارب الخبراء في السياسة:{ صلاح المُلْك؟ في صلاح الوزراء وأعوانهم، فإنهم إن صلحوا صلح الملك، وإن فسدوا فسد الملك}. وعلمتم في بحث سابق من على منبركم هذا أن من واجب حاكم المسلمين إقامة هيئة الإفتاء وتنصيب المفتي العام وهو القاضي الأول في البلاد، وهو الحاكم والقاضي بالكتاب والسنة، لضمان العدل وحفظ المصالح، وتحقيق المقاصد.