حوار

حوار”البصائر” مع الدكتور والباحث والمعماري مصطفى بن حموش – جامعة البليدة:/ حاوره:حسن خليفة


  • الهندسة المعمارية هي الجزء الملموس من الثقافة التي تعكس المقومات الفكرية المتآلفة أو المتضاربة التي يعيشها المجتمع.
  • يمكن للجزائر أن تكون “عملاقا” كبيرا …ّإذا وجدت القيادة الراشدة.

في سياق الحوارات العلمية والمعرفية التي تنجزها البصائر منذ مدة، مع نخبتنا الوطنية في الفكر والعلم والثقافة والأدب، كان اتجاهنا هذه المرة إلى قامة من القامات العلمية الجزائرية الكبيرة، وهو البروفيسور مصطفى بن حموش صاحب التجربة الثرية في مجالات التدريس والتأطير والتأليف والإشراف. والذي قضى نحو 20 عاما في المغترب، مدرّسا ومؤطرا وباحثا.

بغرض الاستفادة من مسيرته العلمية والمهنية، والتعريف العلمي به…. كان هذا الحوار ….

 

  • نحب أن يتعرّف عليك القاريء بشكل ما ..فماذا تقول له؟
  • أنا حاليا أستاذ محاضر في جامعة البليدة، معهد الهندسة المعمارية و التعمير. وقد عدت من رحلة الغربة التي دامت 17 سنة قضيتها بداية في أوروبا ثم في الخليج. فبعد أن تخرجت من الجزائر اتجهت إلى بريطانيا لإكمال الدراسة بفضل المنحة الحكومية، وعدت بعدها مباشرة إلى التدريس بنفس الجامعة التي أنا فيها، وقد اغتنمت الفرصة خلال تلك الفترة لمناقشة رسالة الدكتوراه في باريس الثامنة في مجال إدارة المدن والتخطيط العمراني.

وقد كانت إقامتي في الخليج رغم ثقل الغربة، فرصة العمر للقيام بأغلب أعمالي الأكاديمية ونشر  الكتب والمقالات العلمية، بفضل ما تقدمه الجامعات هناك من تسهيلات وحوافز  وحتى “تخويفات” بضرورة الإنتاج العلمي المرتبط بعقود العمل وتجديدها، فالمنافسة الأكاديمية هناك هي العملة السائدة، و ليس هناك أكاديمي متعاقد يبقى في منصبه إذا لم يبرز كفاءته.

 

  • نسألك أولا كباحث وأكاديمي …كيف تقيّم وضعنا الأكاديمي في جامعاتنا الجزائرية ؟ (البحث العلمي ـ الابتكارات والانجازات ـ الخ )
  • الوضع الأكاديمي في جامعاتنا الجزائرية بالعودة إلى الخريطة العالمية يعطي صورة قاتمة، حيث أن جامعاتنا لا توجد في التصنيفات العالمية، نظرا لحواجز اللغة من جهة و كذلك التقاليد التعليمية والبحثية البالية، والعقيمة، فأساتذة التعليم العالي يتم توظيفهم على حسب الشهادات ولا يعطى للسيرة الذاتية والإنتاج العلمي أية قيمة تذكر. كما تستغل الأبحاث عموما لمجرد الترقية ولا تجد لها مسارا نحو الواقع.

الترقيات هزيلة، حيث يتطلب المرور  إلى رتبة أستاذ نشر  ورقة بحثية واحدة و إمضاء خمس سنوات من التدريس، فيما تتطلب الجامعات الخليجية مثلا  نشر 8 إلى 10 أوراق بحثية والقيام بخدمة المجتمع بالمحاضرات والورشات، كما تتم الترقية بطريقة أكثرها إدارية، حيث تتم دراسة ملفات الترشح مجموعة من الأستاذة، فيما تكون الترقية في الخارج بإرسال ملف المترشح إلى محكمين غير معروفين لإبداء الرأي دون ضغط وبكل نزاهة.

الأستاذ في الجامعة الجزائرية محصن بفعل الوظيفة، قد يقضي كل عمره في تكرار  مادة لعشرات السنين دون حثه على تجديدها أو تغيير أنماط التعليم المتجددة باستمرار.  و هو يقوم بأدنى واجب له نحو الطلبة، والتي لا تتجاوز في بعض الأحيان 6 ساعات في الأسبوع. نظام الإقامة الإجبارية داخل أسوار الجامعات غير مفعل رغم أنه موجود في القانون، فمعظم الأساتذة ليس لهم مكاتب للاستقرار  واستقبال الطلبة في الأوقات المكتبية،  فمسار  أغلبهم من موقف السيارات في الجامعة مباشرة نحو المدرجات ثم يغادرون، ولا علاقة لهم في الغالب بما يجري في الجامعة. ساعات المداومة التي يتطلبها نظام الـ (ل-أم-دي) لا تعيرها الإدارة أي اهتمام، فلا يرتبط الطالب بالأستاذ إلا بالمحاضرة والامتحان.

  • عطفا على السؤال السابق…لقد درّست في جامعات خليجية…كيف تقيم ـ أيضا ـ الوضع العلمي والأكاديمي هناك(البحرين ـ السعودية ـ الإمارات الخ ) ؟
  • بالمقارنة مع الجزائر، فإن بلدان الخليج تتميز بانفتاحها على الكفاءات العالمية في التدريس. التوظيف لغير المواطنين وهم الأغلبية، يتم على أساس ملف السيرة الذاتية وجامعة التخرج، والمسابقات والمقابلات، فبعد التعاقد يجد  الأستاذ هناك نفسه مع العديد من الجنسيات تجمعهم المؤهلات العلمية والشهرة العلمية. رواتب الجامعات والتسهيلات التي تقدمها الإدارة محفزة جدا، فمن أول توظيف يكون الراتب محترما، قد يكون 5 إلى 10 مرات راتب الجزائر، وتعطى للأستاذ تذاكر سفر سنوية ومكتب داخل الجامعة مزود بكمبيوتر موصل للإنترنت، وفي المقابل يكون لزاما عليه أن يقضي الوقت الكبير في الجامعات ويستقبل الطلاب في مكتبه للاستشارة و يشارك في اللجان المتنوعة للجامعة،  وحتى يكون التحفيز والتخويف مترافقين، فإن العقد يتجدد في الغالب كل سنتين في ضوء الملف العلمي والبيداغوجي الذي يقدمه الأستاذ.

في شيء من التفاصيل، منذ أول يوم من التوظيف يكون للأستاذ مكتب مجهز بكمبيوتر  وموصول بالأنترنت، يقضي فيه الساعات المكتبية لاستقبال الطلبة عند الحاجة ووقته للبحث العلمي.  اللغة المستعملة خاصة في الميادين العلمية والتكنولوجية هي بالطبع الإنجليزية، وأغلب المراجع والمناهج والطرق من أمريكا. التنافس الشديد بين الأساتذة والتفوق يظهر من خلال ملف السيرة الذاتية الذي يوضع في موقع الجامعة حيث نجد فيه كل التفاصيل الضرورية عن أي أستاذ، من حيث مجال دراسته وعدد منشوراته وبحوثه الحالية والدكاترة المسجلين معه واللجان والمنظمات المهنية والعلمية التي ينتمي إليها.

الترقية نحو الأستاذية تعتمد على معايير عالمية، بخلاف ما يحدث في الجزائر التي تقوم على أساس لجنة تجتمع في الوزارة مرتين كل سنة، فملف المرشح بعد أن يستوفي 4 متطلبات رئيسية هي البحث العلمي والتدريس والبيداغوجيا، وخدمة الجامعة من خلال المشاركة في اللجان وخدمة المجتمع من  خلال إعداد المحاضرات العامة والورشات، فالجزء المتعلق بالجانب البحثي يرسل إلى محكمين حول العالم من نفس تخصص المرشح حيث تكون إجابتهم فاصلة وأساسية.  عدد المقالات المحكمة العالمية يجب أن تتراوح بين 8 و 10 مقالات دولية، فيما يطلب في الجزائر  مقالة واحدة و قضاء 5 سنوات في التدريس.

 

  • تحدثتَ مرارا عن ما يمكن أن يُطلق عليه مصطلح ” التقدم الزائف ” في دول الخليج العربي …وتحدثت عن المفارقة بين المظهر الخادع (ناطحات وعمائر وأبراج زجاجية فيما الخواء يسكن الإنسان في الداخل ). والتنمية الحقيقية غائبة .. حدثنا عن ذلك؟
  • هناك ظواهر ومفارقات كثيرة في الخليج، فمن جانب “التقدم الزائف” يرى الكثير أن وجود العمارات الشاهقة والتكنولوجيا العالية والرفاهية معظمها مستورد وناتج بفعل الطفرة المالية الكبرى والعدد القليل من السكان وحداثة التطور. إن المواطن العادي في الخليج يجد نفسه مندهشا بالحداثة التي اقتلعته من جذوره الطبيعية والبدوية أحيانا، وتكون في بعض الأحيان تصرفاته غريبة وناتجة عن التمازج غير المتوازن بين الحداثة والأصالة وعدم مواكبة سلوك المواطن العادي بذلك التطور السريع، وهي المعادلة التي لم تجد لها مكانا في الأوضاع الحالية إلى يومنا.

لقد أصبح المواطن الخليجي كائنا مستهلكا بامتياز  بسبب مردوده الإنتاجي المنعدم من جهة وقدرته الشرائية ووفرة السلع في بلده من جهة أخرى انتقاله المفاجئ من ذلك الإنسان الحر  الذي يجوب الصحراء و يركب البحر نحو  القارات الأخرى  للتجارة إلى نظام المواطنة المدجنة جعلت من المجتمع مجموعة أفراد تحت رعاية الدولة المركزية وريع البترول، ولنا أن نتخيل مقدار هذا التحول من ذلك البدوي الذي يقوم بكل مستلزمات حياته من زراعة نخيل و تربية الجمال والعناية بالخيمة والبيت الطيني، إلى بيت مكيف ومزود بأحدث وسائل الراحة والاستمتاع والخدم والراتب المستمر  أو  الأعطية الكريمة من الخزينة العامة.

لكنه في المقابل لا يجب إغفال الجوانب الإيجابية الكثيرة للتطور الذي شهده الخليج و الذي عاد بالفائدة على المجتمع والمواطن، وإدارة الدولة، فالخدمات الاجتماعية وتوفر   الغطاء الصحي والإدارة السلسة ووسائل النقل والحاجات الأولية والكمالية بفعل تحرير  المبادرة الفردية والقطاع الخاص وبالطبع بفعل سهر الإدارة المحلية ورقمنة الخدمات واستحداث الطرق والمناهج في ضوء التقدم العالمي الذي يستقدم حبا في مواكبة العصر.

لا أستبعد نشأة نخبة قوية وناضجة في الخليج بفضل الانفتاح الكبير على التقدم التكنولوجي العالمي واستقدام الكفاءات من كل أنحاء العالم، وحرص الشباب الذي يجد الفرصة سهلة لولوج أكبر جامعات العالم حيث يعود في الغالب الكثير  منهم إلى بلده ليقدم خدماته أو يؤسس شركته الخاصة.  فهذه الثروة البشرية الثمينة والمتنامية وإن لم يكن لها إلى حد الآن أثرا كافيا حيث أن معظم الإطارات في دول الخليج هي إطارات أجنبية، ستأخذ يوما ما زمام الأمور بفعل كفاءتها المكتسبة.

 

  • مسألة التنمية مسألة جوهرية …لكن تطبيقاتها مختلفة ..عندما تقارن ـ كباحث ومتابع  ـ بين النمور الأسيوية وبعض بلداننا ماذا تقول؟
  • نعم التنمية مسألة جوهرية، ونحن نرى الفرق الشاسع بيننا و بين هذه البلدان الأسيوية التي كان لها نفس تاريخ الانطلاق معنا بعد الاستقلال بناء الإنسان في تلك البلدان وإرساء ثقافة الجد والمثابرة والتضحية والنظام والانضباط الشديد كان له الحصة الأساسية في بناء البلد.

فرغم ندرة المواد الأولية في هذه البلدان فإن الرأسمال البشري والعقلي والاجتماعي كان له أثره في تقدم تلك البلدان.  هل يعقل أن تخيف بلدان مثل تايوان والصين بلدانا متجذرة في الصناعة مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا؟  يكفي أن نجد أن أسواق كل من  ألمانيا وبريطانيا الآن  لم تستطع مقاومة إغراءات المنتوجات الصينية مثلا.

وهنا تظهر المفارقة بيننا وبينهم حيث دفعتنا الوفرة واقتصاد الريع البترولي إلى التكاسل والتواكل والاعتماد الكلي على الخدماتية التي تقدمها الدول بفعل السيولة المالية، فنحن الآن نتساءل ونحن على أهبة  مغادرة فترة الاقتصاد الأسود والمواد الخام إلى اقتصاد المعرفة والذكاء الصناعي، هل ثروة البترول كانت نعمة أم نقمة على بلداننا بسبب عدم استغلالها للمرور  إلى هذه المرحلة؟

 

  • نعود  إلى الشأن الجزائري …كيف تقرأ الأوضاع في وطننا خاصة في المدة الأخيرة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ؟
  • الأوضاع في الجزائر تعكس مخاضا عسيرا للتحول الحضاري أو التردي، وكلا الوجهين له أمثلة حية تعضده من باقي البلدان المجاورة لنا. الجزائر  في نفس الوقت بلد ديناميكي متميز  كل التميز  عاش فترة ما بعد الاستعمار  وحان الوقت ليمر  إلى مرحلة تاريخية جديدة. و لعل صعوبة التنبؤ  بمستقبل أوضاعها ينبع من هذا الجانب غير المتوقع والمجهول، الذي ينفلت من قواعد التنبؤات والاستشراف.  لقد خرج  البلد من مرحلة الاحتلال بعد أن خربت جميع مقوماته وعاداته وثرواته ليجد نفسه في مفترق الطرق بين أن يعيد بناء نفسه وفق النموذج ما قبل احتلال وهو غير ممكن، ويواكب التقدم الذي يشهده العالم المقابل له وراء البحار، وهو الهدف الذي لم يتحقق سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي .  المسألة السياسية أصبحت مركزية في حياة الجزائري، نتيجة إخفاقات الإدارة  العامة و المخططات التنموية.

تراكم التجارب غير الموفقة التي تعكسها  الحكومات المتعاقبة خيبت قطاعا كبيرا من المجتمع التواق للتطور والتنمية والرفاه. المجتمع أصبح يعيش ثنائيات متضاربة بين العسكري والمدني، بين العلماني والإسلامي، بين الوطني والجهوي، بين التراثي والحداثي،  بين اقتصاد الريع واقتصاد التمكين.  تراكم التجارب الفاشلة لا يعتبر  بحد ذاته فشلا ما دام هناك قوى اجتماعية تتحرك نحو   الأفضل. بشيء من التفاؤل الحذر فإن هذه الثنائيات في احتكاكها المتواصل بعضها ببعض ستكون هي الطريق نحو الحل المناسب.

 

  • كيف تقيّم الحراك السلمي الجزائري الذي تجاوز شهره الثامن؟ وفي أي سياق يندرج هذاالحَراك في تقديرك؟ 

 

  • بداية، فإن الحراك قد قدم للعالم نموذجا غير مسبوق للاحتجاج السلمي تناغم فيه الجيش والشعب وانعدمت فيه الخسائر بشكل مبهر، خاصة إذا ما قورن بأحداث مماثلة معاصرة في بلدان أخرى . إنه مؤشر إيجابي قوي، تماما مثل ذلك الاستقلال الذي نالته والذي امتد إشعاعه إلى عشرات البلدان المستعمرة الأخرى في العالم، مما جعل الجزائر  قبلة للأحرار  وحريات الشعوب.

أما من خلال المنظور التاريخي الطويل المدى أو  رؤية فرناند برودال، فإن الجزائر التي عاشت ما يزيد عن قرن من الاحتلال الفرنسي المدمر ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، تكون بعد الاستقلال قد عاشت مرحلة ما يسمى بما بعد الاستعمار  بوست كولونياليزم، التي تعني العيش مع بقايا الاحتلال وصراع الهوية والبناء والبحث عن الطريق.  وأزمات 1967 ثم أكتوبر 1988 وبعدها 1992 وها هي أزمة 2019 لا تعني إلا ذلك الإرهاص الكبير، والتفاعل الباطني بين معطيات المجتمع وتناقضاته، والخارجي بامتداد الهيمنة التاريخية لفرنسا، والتوق إلى أسس الحضارة من دولة القانون والحقوق والحريات والنمو  الحضاري.

من المؤكد أن هناك ما يسميه مالك بن نبي نصابا لقيام حضارة أو ميلاد مجتمع ما،  الذي استوحاه من سورة  الأنفال، وهو حضور كتلة من الشباب المتحفز  من جهة والواعي والمثقف من جهة أخرى، وفي هذا السياق الفلسفي العام لحركة التاريخ، نتساءل دائما بكل احتيار  وظنون –أكاديمية- هل الكتلة القائمة حاليا هي التي تستوفي مطلب النصاب الحضاري، إذا ما أخذنا عدد الجامعات الموجودة في بلادنا وعدد المثقفين والإطارات الموجودة داخل البلاد وخارجه، ومحصلة تحفزهم نحو  الهدف الأساسي العام. لا أحد يمكن أن يجزم أو  ينفي ذلك، إلا من باب الاستشراف.

الحراك يمثل بلغة أخرى مخاضا عسيرا لولادة جزائر  جديدة لا أحد يمكنه التنبؤ  بشكلها، فحركة المجتمع –التي يمثلها الحراك- ونحن داخلها و في أحشاء هذا المخاض تتجاوز  قدراتنا العقلية وتصوراتنا لما ستؤول إليه الأمور بالسلب أو الإيجاب،

الحراك إفراز اجتماعي يعكس من جهة أزمة الواقع المذكورة في السياق التاريخي، من خلال الثنائيات المذكورة، ومن جهة أخرى تلك الوثبة نحو الأمل والتغيير الإيجابي.

 

  • باعتبارك مهندسا ومثقفا فاعلا…أريد أن أسألك عن مجموعة مسائل ذات صلة بالعمران في وطننا؟ ..ماذا تقول كبداية في شأن العمران والهندسة المعمارية؟
  • الهندسة المعمارية قبل أن تكون فنا كما يعتقد الكثير من الناس، هو الصورة المجسدة للمجتمع، فكل خصوصيات المجتمع وأمراضه وأعراضه وقيمه وأزماته يمكننا قراءتها من خلال الواجهات والشوارع والعمران. الهندسة المعمارية هي الجزء الملموس من الثقافة التي تعكس المقومات الفكرية المتآلفة أو المتضاربة التي يعيشها المجتمع. فواجهات البيوت مثلا تعكس حاجاتنا إلى الخصوصية والأمن والجماليات وفي نفس الوقت سلوكنا لتوفير ذلك وفق مستوانا الحضاري والتمكن المادي. مدننا بعكس العديد من المدن العربية الأخرى مثلا تعكس انقطاعات تاريخية حادة وغيابا للنسق الحضاري الذي يجمع بين الماضي والحاضر . ممارسة  المواطن اليومية في المدينة تبوح بنقصان رصيده المدني والجماعي المطلوب لصناعة المدنية.
  • كيف يبدو لك النسيج العمراني وهو على هذا النحو من «القبح ” والبشاعة كما يقرّ بذلك المتابعون؟
  • الرداءة التي نعيشها في مدننا وأنسجتنا العمرانية هي حتمية تاريخية للأزمة الحضارية التي نعيشها، ففي الوقت الذي تستولي فيه الدولة على مهمة إدارة المجتمع و هندسته، فتصنع مدنا اسمنتية منمطة وفق معايير صناعية مختزلة، فإن المواطنين يبادرون بأنفسهم خارج هذا الإطار  لصناعة مدنهم العشوائية والتي توفر لهم السكن و الأمن. وفي الوقت الذي يجتهد المهندسون المعماريون والمخططون في إسقاط ما يتعلمونه في المدارس المعمارية والتخطيطية التي يستقي أغلب مادتها من المدارس الفكرية الغربية، فإن المواطن البسيط يعيد تشكيل فضائه السكني سواء الفردي أو السكني وفق منطقه العفوي، مستحضرا البعض من قيمه الروحية و الاجتماعية. يضاف إلى ذلك الانهيار  شبه الكلي للأعراف السائدة التي كانت تقوم وفقها المواطنة، وأعني بذلك العيش مع الغير وذلك مثل قيم الجوار  والستر  والضيافة والارتفاق، وغيرها.

وفي الجانب الجمالي فإن انحدار  الحاجة لدى المواطن إلى مستوى المأوى تجعل من الفن المعماري والزخرفي ترفا لم نصل بعد إلى مستواه. يضاف إلى ذلك رصيد المدنية التي ضاعت من المواطن نتيجة اللا إستقرار  وغياب الروح الجماعية ورد الفعل السلبي نحو  مفهوم الدولة التي يعتبرها المواطن مجرد “بايلك”.  إن الروح الفردية التي استقرت في مدننا جعلت المجتمع المدني مجرد تواجد أفراد في مكان واحد، فمجموعة الأفراد مهما كبر عددها لا يمكنها أن تصنع مجتمعا مدنيا.

 

  • هل تعتقد أن العشوائية والارتجال والتسيّب وراء هذا المشهد العمراني الكئيب في بلدنا ؟
  • العشوائية والارتجال والتسيب كلها صفات موجودة في الإدارة العامة المكلفة بالتخطيط ومتابعة شؤون المدينة. هناك انقطاع بين الرأي الاستراتيجي الذي يقوم عليه التخطيط ويشرف عليه المختصون، والتنفيذ والتمويل والمتابعة التي يشرف عليها السياسيون وأصحاب القرار الذين هم في الغالب يحتلون المناصب بمعايير  بعيدة كل البعد عن الكفاءة والاستحقاق، ومن هنا تدخل الرشوة والاستثناءات وعدم أداء المسؤولية وغياب المحاسبة.  إذا أخذنا كمثال المخطط الوطني للتهيئة العمرانية الموضوع  لاستشراف سنة 2030، نجد أنه وضع في مستوى عالمي من النوعية، غير أن  تنفيذه ومتابعته لدى الحكومة والوزارات مهمل كليا. فالمدن الذكية والمدن الجديدة التي كانت أهدافا استراتيجية خمس سنوات من قبل، أصبح نكتة في أيامنا بفعل الرداءة والتسيب، الذي كشفه الحراك.
  • ..لكن أين يكمل الخلل بصفة أساسية، برأيك في هذا المجال ؟
  • لعل الخلل الجوهري هو وجود أشخاص في محل المسؤوليات وهم ليسوا بأهلها، يعتبر الحديث النبوي معيارا ذهبيا في هذا المجال: إذا أسند الأمر لغير  أهله فانتظر الساعة.  توزيع المناصب منذ المستوى المحلي إلى أعلى رتبة يعتمد في الغالب على المحسوبية والجهوية والولاء و الإذعان، ويغيب عنه معيار الكفاءة والأمانة.
  • مصطلح” المدن الجديدة” إنشاء وتدبيرا وتسييرا …كيف تقرأ المسألة في بلادنا ؟ وكيف تقيّم مسار هذه المدن عمرانيا وهندسة واجتماعا الخ ..؟
  • أنا بصدد دراسة شاملة للمدن الجديدة في الجزائر، فقد كانت ستكون تجربة رائدة، منذ أن وضعت مدينة بوغزول لتكون عاصمة جديدة، وقد تبع ذلك مشروع توزيع مدن جديدة على ربوع الوطن بهدف سحب العمران نحو الهضاب وتخفيف الزحف نحو الشمال، وبهدف خلق محركات اقتصادية جديدة تقوم على اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا الإعلام. غير أن ما حدث في سيدي عبد الله ثم في بوينان خيب ظن المجتمع في مفهوم المدن الجديدة. المدن الجديدة في الصحراء مثل حاسي مسعود والمنيعة هي الأخرى خيبة إضافية حيث أنها لم تنطلق رغم توفر كل الإمكانات. إنها في الغالب بسبب خيانة المسؤولية وعدم الكفاءة، نقول هذا حتى لا نفتح ملفا قضائيا حول صرف تلك الأموال الضخمة التي رصدت لهذه المدن.
  • حدثنا عن المجلة التي تصدرونها ؟
  • مجلة المدينة أنشئت بهدف ترشيد الثقافة المعمارية والعمرانية في بلادنا، فهي تهدف إلى وضع جسر بين الأكاديميين والممارسين الميدانيين من جهة وبين البحث العلمي والمهن المرتبطة بالمدينة وبين التاريخ والحاضر والرؤى المستقبلية. وقد بدأت بسلسلة دراسة مدن على أن تغطي كل المدن الجزائرية التي تملك رصيدا تراثيا، وقد عرض على وزارة الثقافة التي قبلته في البداية ثم ما لبثت أن تنصلت منه. وها نحن نقوم بنشرها وتوزيعها بإمكاناتنا المحدودة الخاصة ومساعدة المتعاطفين والزملاء، مما جعل إصدارها يتعثر  ولا ينضبط، حيث تصدر  مرة كل عام تقريبا.

 

  • كيف ترى الآفاق التنموية بصفة عامة، وفي مجال العمران والإسكان خصوصا ؟
  • الجزائر ورشة كبيرة لمشاريع التنمية ويمكنها بمساحتها الواسعة ومقدراتها وطاقاتها البشرية يمكنها بسهولة أن تكون عملاقا جديدا في إفريقيا وما يسمى بالشرق الأوسط، نموها البشري كذلك يدفع العمران دفعا للنمو  فإذا لم يكن في الإطار الصحيح أصبح في الإطار  الطفيلي المتآكل، مما سيكون له إسقاطات غير محسوبة على البيئة والمجتمع. الإسكان لا يجب أن يكون قطاعا استهلاكيا كما هو معمول به الآن حيث ينتظر المواطن دوره في قائمة “العدل” وإنما يمكن أن يكون محركا قويا للاقتصاد وللقطاعات المتعددة مثل التكنولوجيا ومواد البناء وتجارة العقار والمالية وغيرها من القطاعات المرتبطة بالسكن والعمران والمدينة.

 

  • هل يمكن تجاوز هذه الحال وإصلاح ما أفسد في المجالين العمراني والمعماري في بلادنا؟

 

  • هناك دائما فسحة للإصلاح رغم التشوه الكبير الذي تعانيه المدن، فأسوأ من ذلك الذي يتمثل في الحروب التي دمرت مدنا بأكملها وها هي الآن في أوروبا وفي آسيا عادت لتكون محيطا حضريا مناسبا ومستجيبا لمتطلبات الحياة الحضرية. الحلول موجودة ولكن يجب أن يكون لها من يقوم بها، على كفاءة ودراية. فمن خصوصيات العمران الإنسان الذي يقوم على العقل الجماعي والفكر  الخلاق، أن نفس المكان يعاد تشكيله وصياغته عندما تتوفر  الإرادة الجماعية، فقد عانت باريس ولندن ومدريد وبرلين من فترات صعبة جدا  سواء بسبب الحرب أو  عوامل أخرى، وعاش أهلها في محيط عمراني كارثي، وها هي الآن تعود لتتصدر العالم في التطور العمراني والحلول المبتكرة.

 

  • هل تملكون تصورا واضحا مشفوعا بمخطط مدروس واضح المراحل والمعالم لإخراج البلاد مما هي فيه من الفوضى؟

 

  • إذا اقتصرت على تخصصي في العمران وإدارة المدن، فإني سأقول بأن الحلول للأزمات التي نعيشها موجودة، بل وقد سبقت إليها الكثير من المدن التي كانت أسوأ حالا منا، ولكني على يقين أن المدن ليست قضية تخطيط ومختصين بقدر ما هي إبداع اجتماعي تتضافر فيه الجهود، ويكون فيه المختصون مجرد منسقين.  يقال أن كل ضارة نافعة، فالجزائر  قد شهدت منذ التسعينات هجرة هائلة من العقول والطاقات البشرية واستقرت في مدن متطورة بل وشاركت في تنميتها.  ولذلك فإن إتاحة الفرصة للانفتاح على العالم واستجلاب هذه الطاقات سيكون لها الأثر الفعال والسريع على التنمية العمرانية.  لا أقول أن ما هو  موجود الآن من الطاقات ليس في المستوى ولكنها مكبلة بالإدارة الرديئة والممارسات السيئة مما يتطلب ثورة إدارية وقانونية لتحريرها وتأهيلها.  إن إشراك المواطن في التنمية وزرع روح المواطنة والمدنية  والمثاقفة هو الشق الآخر من المعادلة. وهو يأتي من إعلام هادف ومنظومة تعليمية تربوية حكيمة، بعيدا عما نراه من انحلال وعبثية وتوجيه نحو الاستهلاكية والتواكل والتدجين.
  • كلمة أخيرة 
  • إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، اعتقادي كشاهد على جيلي الذي نشأ تائقا للتغيير أن ما نشهده من غليان اجتماعي وسياسي وثقافي ليس على مستوى بلادنا فقط وإنما كذلك في رقعتنا الجغرافية الممتدة من المحيط إلى الخليج ليس له قراءة إلا  مرحلة تاريخية جديدة ومخاضا عسيرا  لولادة الأمة من جديد، فالانتكاسات التي نشهدها ما هي في الواقع إلا دروس في الطريق، والتمكين رغم هذه الصورة  القاتمة التي نعيشها، مرتبط بحسن الظن بالله.

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com