الحراك العربي، تطهير للربيع العربي/ أ. د. عبد الرزاق قسوم
يلحظ الراصد للواقع العربي، في غليانه وتوقانه هذه الأيام، يلحظ ظاهرة بارزة، وهي شمولية الغضب، الذي يكاد يشمل كل بلاد العرب.
فالمتأمل في الخارطة العربية، تشده هذه الجماهير الشعبية الغاضبة المزمجرة والمطالبة كلها بالتغيير، وتحسين المصير، وطي صفحة الحاضر العسير، الموسوم بالاستبداد في الحكم، والإثراء بالمال والتبذير.
يحدث هذا في لبنان، وفي العراق، وفي مصر، بعد أن سبقتهم إلى ذلك الجزائر، وتونس، من حيث الحراك، واليمن، وليبيا، وسوريا، ومصر، والسودان، من حيث العراك، باسم الربيع العربي.
والمحلل الموضوعي لما يطبع الوطن العربي من التظاهر، والتجمهر، يخرج بنتيجة هامة، وهي أن هذا الحراك الجديد، في شكله ومضمونه إن هو إلا تطوير، وتطهير، لما عرف بالربيع العربي.
فلئن خاضت بعض الأقطار العربية تجربة ما وسم بالربيع العربي، فإن البون شاسع بين التجربتين، سواء من حيث المنهجية والغائية، أو من حيث المرصد والمقصد.
فالربيع العربي، الذي عاشه الوطن العربي بعد قحط مصيف، وجدب خريف، قد جاء كرد فعل لفساد واستبداد، أديا إلى حدوث احتقان وغليان…
ومن خصائص الربيع العربي، أنه لم يكن نابعا في شموليته من الواقع الداخلي الخالص، بل اشتركت في إذكاء ناره، وتقوية أواره دول من جواره، أو قوة معادية لأقطاره.
لذلك جاء شعار الربيع العربي، مختزلا في عبارة واحدة هي ” ارحل” dégage موجهة إلى الحاكم المستبد، الذي عاث فسادا، فضاق الشعب باستبداده، وعناده، وفساده.
غير أن الربيع العربي لم يحافظ على بهجته ورونق سحنته، بل إنه تلطخ بالدماء، لأنه كان فاقدا للاستقلالية والوعي والذكاء.. فرحل قائد ليبيا، وتنحى ديكتاتور تونس، واستقال حاكم مصر، وعزل عسكري اليمن، ولكن المشاكل تفاقمت بعد ذلك، ولا تزال هذه الأقطار تعاني آثار الربيع العربي الدامي.
وعلى أنقاض هذا الربيع العربي الدامي، قام الحراك الشعبي العربي الميمون، بريادة بلد المليون، فرسم هذا الحراك خطا وطنيا آخر، تمثل في السلمية، والجماهيرية، والاستقلالية، والشعارات الحضارية الوطنية.
فبدل ” ارحل” تطور المفهوم إلى الجمع “ترحلوا قاع”، وفي هذا دلالة على عمق الوعي، فالفساد والاستبداد لا يكون من صنع حاكم واحد، مهما طغى وتجبر، ولكنه من صنع عصابة، هي بطانة السوء التي تدل على الفساد، وتعاون على انتشاره.
وقد استهوى الحراك الشعبي الجزائري في طبعته الرائدة، وفي حضاريته السائدة، استهوى الكثير من البلدان، العربية وحتى الغربية، فكان الحراك الفرنسي، والحراك اللبناني، والحراك العراقي، وغير ذلك.
وإن مما تميز به الحراك الشعبي الجماهيري، أنه جاء تطهيرا وتطويرا لحراك الربيع العربي، فلم يعد رد فعل انفعالي، أشبه ما يكون بثورة غضب، لا تلبث أن تزول بسرعة، بل جاء مبنيا على الوعي، مدققا في اختيار شعاراته، معمقا لتوحيد كلماته، محققا لدلالات رفع لافتاته.. وهذه نقاط القوة في الحراك الشعبي الجديد.
كما أن من نقاط القوة في هذا الحراك، التفاف كل فئات الشعب حوله، على اختلاف إيديولوجياتها، وقناعاتها، وتوجهاتها، لذلك سلم من العنف، ومن الدماء، والسخف، فأصبح الحراكي الواحد، كالألف..
ولئن تميز الربيع العربي بالإقصائية والانتقائية، إذ لم ينخرط فيه الأقباط في مصر، واليهود في تونس، وأنصار الكتاب الأخضر في ليبيا، فإن الحراك الشعبي في الجزائر، وفي لبنان، وفي العراق، قد جذب إليه كل الفئات، وذلك ما كتب له الديمومة، وحقق له المطالب المرسومة.
إن الوطن العربي الكبير، وقد تجاذبته تجربتان هامتان، وهو يعاني اليوم مخاضا عسيرا، إن هذا الوطن العربي، لا يزال في حاجة إلى هبة شمولية، تزيل عن أجزائه غفوة الجمود، وتبعث به إلى رحلة في عالم الخلود، لعلها توقظ بعض من لا يزالون يعانون من الرقود.
فلا يزال في وطننا العربي من يستقوى بالعدو الأجنبي، ومن يتحالف ضد أخيه العربي، ومن يُطبِّع، ومن يشنّع، ومن يقطّع، ومن … ومن… ولقد رسم هذا المشهد بالكلمات الموزونة، الشاعر العربي احمد مطر، بما يدخره، من أعماق فلسفته الشعرية المخزونة، فقال:
أوهمتكم، بأن بعض الأنظمة
غربية، لكنها مترجمة
وأنها لأتفه الأسباب
تأتي على دبابة مطهمة
فتنشر الخراب
وتجعل الأنام كالدواب
وتضرب الحصار حول الكلمة
استغفر الله، فما أكذبني
فكلها أنظمة شرعية
جاء بها انتخاب
وكلها مؤمنة تحكم بالكتاب
وكلها تستنكر الإرهاب
وكلها تحترم الرأي
وليست ظالما
وكلها مع الشعوب، دائما منسجمة
إننا بالرغم من كل هذه العتمة وهذه السحب الدكناء، التي تلبد سماء الوطن العربي، هناك خيوط من أشعة الشمس بدأت تخترق السحب، لتنشر الضياء..
وإن لنا في ما أنتجه الحراك الشعبي في تونس لعبرة، فعندما توحد الشعب، واستلم الشباب الجامعي الواعي زمام الأمر، استطاع أن يخرج لتونس من صلبها، ومن رحمها، من تدق نبضات قلبه، على وزن آهات المعذبين، والمستضعفين، والمظلومين في تونس.. وإن هذا لأول درس، يقدمه الحراك الوطني الواعي من تونس.
نقول هذا، ونحن نُقبل في الجزائر، على تجربة استحقاقية، مثل تونس، فهل يكتب للجماهير الجزائرية الرائدة في الحراك الواعي أن تخرج لنا باديسا، أو عميروشا آخر، يضئ للأمة دروب ظلمتها، فيخرجها من الظلمات إلى النور؟
نحن بالرغم من كل ما يحيط بواقعنا من تعتيم، وما يلامسه من تضخيم، نبقى متفائلين، بأن الجزائر التي أنجبت الأمير عبد القادر، وابن مهيدي، ومصطفى بن بولعيد وأمثالهم، أن هذه الجزائر، كفيلة، اليوم، أن تخرج من السحب الدكناء، التي تلبد سماءنا خيط شمس، ينشر في قلوبنا، وفي عقولنا، وفي محيطنا الضياء، ويطهرنا من جراثيم الأوبئة الفاسدة التي ورثتنا كل الأوبئة، وما ذلك على الله بعزيز، ولا على شعبنا بالمستحيل.