وراء الأحداث

نحو عهد جديد/ عبد الحميد عبدوس

مازالت الجزائر تصنع الاستثناء وتقدم الدروس الناصعة للعالم، رغم مرور 65سنة على اندلاع ثورة نوفمبر المجيدة التي غيرت مجرى التاريخ وهزت أركان المنظومة الاستعمارية التقليدية وعصفت بالإمبراطورية الفرنسية.

بعد مرور 37 أسبوعا (جمعة) على انطلاق الحراك الشعبي مازال طابع السلمية وعصمة الدماء يميز الحراك الجزائري عن بقية الاحتجاجات الشعبية التي هزت مدن العالم من الشرق إلى الغرب  في سياق موجة عالمية جديدة من الاحتجاج الشعبي الهادف إلى التغيير أو الإصلاح للحصول على قدر أكبر من الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، غير أن المحافظة على طابع السلمية المثيرة للفخر الوطني والإعجاب الدولي، كان من الصعب تحقيقها واستمرارها  لولا حرص قيادة مؤسسة الجيش الوطني الشعبي على مرافقة الحراك الشعبي وحمايته من كل المنزلقات والاستفزازات والمؤامرات والمناورات التي خطط لها رؤوس العصابة القائدة لحزب الفساد العابر للأحزاب والجهات والفئات، وإصرار أذناب هذه العصابة على النفخ في جمر الفتن لمحاولة جر فئة الشباب الغاضب إلى مستنقع الفوضى ومنزلق العنف. كما تميزت قوى الأمن الساهرة على حماية أرواح وممتلكات المواطنين خلال كل المسيرات والمظاهرات الشعبية بمهنية راقية وروح انضباطية عالية ساهمتا في ضمان الطابع الحضاري للحراك الشعبي.

كانت الجمعة السابعة والثلاثون من دورات الحراك الشعبي والمتزامنة مع الذكرى الخامسة والستين لاندلاع ثورة الفاتح نوفمبر المباركة لافتة للنظر بعدد المشاركين فيها، ورغم رفع بعض الشعارات واللافتات الفئوية والتحريضية، فقد ظلت الراية الوطنية عالية ومهيمنة على الساحات والمسيرات كرمز لتمسك الغالبية العظمى من الجزائريين برمز الثورة والاستقلال الوطني المتمثل في العلم الوطني، باستثناء فئة قليلة مازالت مصرة على رفع الراية التي يدعون أنها تمثل رمز الهوية الثقافية، وهي راية ولم يستشهد تحت ظلالها عميروش آيت حمودة، و مراد ديدوش، ومصطفى بن بولعيد، ومحمد العربي بن مهيدي، ويوسف زيغود ، وحسيبة بن بوعلي، وأحمد زبانة ، والعقيد لطفي، والعقيد الحواس. ومختار دخلي المدعو البركة، ولم يجاهد تحت ألوانها  كريم بلقاسم، ومحمد بوضياف، ورابح بيطاط، وهواري بومدين، والعقيد محمدي السعيد… وغيرهم من فرسان الحرية من شهداء الجزائر ومجاهديها ،فكيف لأصبحت اليوم راية ثقافية لفئة من الشباب انسحق وعيهم الوطني تحت تأثير ثقافة التقسيم والتحيز الحزبي والجهوي ؟

لقد راهن البعض على جعل مسيرات الجمعة السابعة والثلاثين المتزامنة مع إحياء ذكرى أول نوفمبر، منعطفا في إفشال مساعي السلطة الجزائرية لتنظيم انتخابات رئاسية في 12 ديسمبر المقبل لتكون مفتاحا للخروج من الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد بعد إقالة رأس الفساد والاستبداد عبد العزيز بوتفليقة في أفريل 2019، ومازال دعاة التأزيم والتقسيم وكهنة الانسداد وجر البلاد إلى السقوط في مرحلة انتقالية تفتح الباب واسعا أما أطماع التدخل الأجنبي، ومصادرة سيادة القرار الوطني، يراهنون على تعطيل الانتخابات الرئاسية التي تمثل الحل الدستوري السليم لتجديد المؤسسات وترسيخ الديمقراطية وتجسيد الشرعية الشعبية، ولهؤلاء المغامرين الضالين واتباعهم وداعميهم من القوى الاجنبية، وجه رئيس الدولة السيد عبد القادر تحذيراته في الكلمة التي بثها التلفزيون الجزائري عشية الذكرى الـ65 لثورة نوفمبر  قائلا: “الدولة سوف تتصدى لكافة المناورات التي تقوم بها بعض الجهات” مؤكدا على أنّه: “لا يحقّ لأيّ كان التذرّع بحرية التعبير والتظاهر لتقويض حق الآخرين في ممارسة حرياتهم والتعبير عن إرادتهم من خلال المشاركة في الاقتراع”.

وقبل خطاب رئيس الدولة بيوم واحد، أكد  نائب وزير الدفاع الوطني ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق أحمد قايد صالح، إن: “ما يهدف إليه الشعب الجزائري رفقة جيشه هو إرساء أسس الدولة الوطنية الجديدة كما سيتولى أمرها الرئيس المنتخب الذي حظي بثقة الشعب من خلال الانتخابات التي ستجرى في موعدها المحدد يوم 12 ديسمبر المقبل”.

ومن جهته ألح المدير العام للأمن الوطني، أونيسي خليفة، على ضرورة ضمان السير الحسن للموعـد الانتخـابي الهام، المقرر بتـاريخ 12 ديسمبر المقبل، حاثا قوات الشرطة على بذل المزيد من الجهود للتصدي لكافة أشكال الجريمة، لاسيما ما تعلق الأمر بتهديدات الإخلال بالنظام العام أو أي نشاط إجرامي من شأنه أن يمس بالسير الحسن لهذه الاستحقاقات الانتخابية الهامة والمصيرية التي ستعرفها الجزائر.

مساء يوم الخميس عشية الاحتفال بذكرى اندلاع ثورة نوفمبر كنت أسير بأحد شوارع باب الوادي الشعبي، وسمعت شابا في مقتبل العمر يقول لصديقه: “غدا سنخرج لتحقيق الاستقلال واسترداد حقوقنا”.

لم استغرب حديث هذا الشاب الذي يبدو عليه أنه غادر مقاعد الدراسة قبل اتمام تعليمه الثانوي، فهذا النوع من الشباب لا شك أنه كان ضحية التهميش والبطالة والخوف من عدم القدرة على بناء أسرة وتحقيق العيش الكريم له ولأسرته، ومثل هذا الشاب يمثل عينة لآلاف الشباب الذين يشاركون في مسيرات الحراك الشعبي ولا يمكن إدانتهم أو اتهامهم بعدم حب الوطن، وقد لا يدري هذا الشاب أن تحقيق الاستقلال لم يأت بالمسيرات والاحتجاجات، وأن الانتخابات الرئاسية التي يدعو لمقاطعتها قد تكون بداية حل لمشاكله وفرصة سانحة لمعالجة الأخطاء والسياسات الفاشلة التي اتبعتها عصابة الفساد والاستبداد وغلقت أبواب التوظيف واغتالت الأمل في مستقبل أفضل بواسطة النهب والمحاباة وتهميش الكفاءات و العمالة لفرنسا المستعمر القديم  الذي مازال يتربص شرا بالجزائر، كما لم استغرب كلام المؤرخ محمد حربي الذي فضل العيش في فرنسا والتشبث بثقافتها وقيمها، الذي اعتبر بمناسبة إحياء الذكرى الخامسة والستين لثورة الفاتح نوفمبر” أن الحراك هو رد فعل على سلب الحقوق والاضطهاد”، ولكنني استغربت كلام زميل صحفي كان معارضا لحكم الرئيس المقال، حين أدعى في مقاله الصحفي  أن: “العمل داخل الدستور بواسطة الواجهة السياسية المدنية البائسة مدة 10 أشهر، قد أوصل البلاد إلى وضع أسوأ مما كانت عليه قبل وقف العهدة الخامسةّ.”

فهل يعقل أن تفادي الأسوأ كان ممكنا بصرف النظر عن تصرفات العصابة وتركها تواصل نهب ثروات البلاد وإفقار العباد بلا حسيب ولا رقيب، وإبقاء حكم الجزائر خاضعة لحكم القوى غير دستورية؟ !

لا جدال في أن هناك فئة من المواطنين تعارض السلطة القائمة، وترفض تنظيم الانتخابات  الرئاسية في 12ديسمبر المقبل، ومن حقها  التعبير عن رأيها، والتمسك بموقفها ،ولكن ليس من حقها الادعاء بأنها تمثل الأغلبية الشعبية، وتضع نفسها وصية على تمثيل الرأي العام الوطني والتحدث باسمه في القنوات التلفزيونية الأجنبية ،وأحرى من ذلك أن تتجرأ على محاولة مصادرة حق الآخرين في اعتبار الخيار الانتخابي أفضل الحلول للأزمة، وأن تهدد بمنع إجراء الانتخابات في موعدها. ومن البديهي أنه لا يكفي أن نحتفل بذكرى نوفمبر، ولكن يجب أن نجعل من التعقل والحكمة واحترام الرأي الآخر، وتقديم المصلحة الوطنية على ما سواها، والوفاء لرسالة الشهداء هي القاسم المشترك لبناء الجزائر التي تمثل أمل كل الجزائريين.

فالجزائر سائر بعزم وثقة في مسار تنظيم الانتخابات الرئاسية خصوصا بعد إعلان السلطة الوطنية المستلقة للانتخابات عن القائمة الأولية للمرشحين للانتخابات الرئاسية الذين يمثلون تشكيلة متنوعة من الإطارات السياسية التي تجمع بين الخبرة والطموح ومضاء العزيمة.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com