شعاع

طوابير “سولكينغ” وبعض دلالاتها/ د.حسن خليفة

مفتتح:” مهمة الدين إذا رأى عاثرا أن يعينَه، لا أن يتقدم للإجهاز عليه”(محمد الغزالي ـ رحمة الله عليه ـ)

الآن وقد خبت “فورة” التفاعل مع المأساة التي حدثت والمتمثلة في “موت” عدد من الشباب في الحفل (المجنون) الذي نُظّم في ملعب بالعاصمة (جفل سولكينغ!!( هل ينبغي أن يطويّ النسيان تلك المأساة؟ أم يحسُن البحث في بعض من مسببّاتها وبعض من دلالاتها ومعانيها، وبعض من مآلاتها.

  • لقد شدّ الجميع في البداية تلك الطوابير الطويلة من الشباب (وحتى بعض الكبار والكبيرات) الذين اصطفوا لشراء التذاكر، وكانت تلك واحدة من الإشارات التي ينبغي التقاطها، والمتمثلة في الإقبال(غير العادي) على حفل ذلك الشاب “المغني”. وقد كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور ـ أي دور ـ في تعميق ذلك الإقبال وتعزيز الاهتمام . وهذا ملحظ أول فيما ينبغي أن يُدرس : دور وسائل التواصل في نقل المعلومة وترويجها وتزيينها وإيصالها إلى أكبر قدر ممكن .
  • نقرأ في التعليقات خاصة الكثير من عدم الإحاطة بحقيقة الموضوع، وجاء بعض الكلام  في سياق كما لو كان هذا الشخص أمريكيا أو فرنسيا أو استراليا ..المهم أن الكتابات تندفع في اتجاه الرفض، إن لم يكن الرفض المطلق ..حتى دون تبيّن حقيقة أمر هذا  الشخص من يكون وما حقيقته؟ وما دوره الخ؟

والأمر قد يختلف ولو بعض الشيء إذ عُرف أنه جزائري واسمه “عبد الرؤوف دراجي ـ من سطاوالي(الجزائر العاصمة). وهو شاب جزائري مثل آلاف الشباب الذين “سافروا” إلى الخارج لتحقيق أمانيهم حسب وجهة نظرهم على كل حال . كان عضوا في فريق “أفريكا جانغ” وقدم أغاني هي خليط من اللهجة الجزائرية واللغة الفرنسية، ولم يحظ بالشهرة العريضة خارج الجزائر، وإن كان معروفا داخل مجتمع ومحبي الراب والهيب هوب الجزائري، من خلال ألبومين أصدرهما الفريق قبل 2013 تحت عنوان “شد روحك” و”اكاليبس” وصورا منه عددا من الأغاني وحظوا باهتمام جزائري من محبي هذا النوع من الموسيقى.

  • وفي عام 2014 هاجر “دراجي”(سولكينغ) إلى فرنسا رفقة زملاء له:”جام شو” و”ناس دوز”، وسرعان ما وجد طريقه بمساعدة أصدقاء ومعارف (لاحظ المعارف حتى في هذا المجال ) ليصدر البوما بعنوان “جونغل صولدا” ومنذ ذلك الوقت عرف نفسه للجميع باسم “سولكينغ” ولهذا الاسم حكاية ليس هذا محل بيانها.!!
  • ذلك الإقبال الكبير كما تظهره الصور والفيديوهات له أسبابه، ومن أهمها “عناية” الإعلام عندنا بمثل هذه الأمور، قصدا وعمدا، بإيعاز من جهة ما ، أو بحسن نية !! فقد خصصت الصحف والقنوات الكثير من الوقت والإشهار المجاني لهذه “الكفاءة”!! الجزائرية في مجال الرّاب، فيما لم تهتم وسائل الإعلام  إطلاقا  بمئات المبدعين والمخترعين الجزائريين من الجنسين في مجالات علمية كثيرة، فازوا بجوائرعالمية ودولية في حقول معرفية عالمية، وحققوا بها براءات اختراع وازنة.
  • من الدلالات المهمة أن شهرة هذا الشاب تعود إلى ” مقابلة له مع إحدى الإذاعات الخاصة بهذا النوع من الغناء شهر جانفي ـ يناير 2018 وعلى هامش ذلك اللقاء سجل المسمى سولكينغ أغنية “Guérilla” حققت أكثر من 115 مليون مشاهدة. تخيل… لقاء إذاعي حقّق كل هذه الشهرة لصاحبه عن طريق أغنية واحدة فقط، استغلها هذا السوفاج “سولكينغ” لتقديم موهبته أفضل تقديم.!!! (المصدر محفوظ !).
  • من الدلالات أيضا أن  ذلك الإقبال يترجم  كبيرا لدى الشباب من الجنسين،  لم يجد تلبية في المجال الوجداني والنفسي. والنفس الإنسانية لا تقبل الفراغ، إن لم تُملأ بالجيد والمؤنس والمفيد امتلأ ت بالغناء وغير الغناء كالمخدرات وأنواع الكيف والرذائل المتنوعة..والسؤال موجه هنا لأطباء القلوب وبناة الأجيال من الأساتذة والمربين والدعاة والخبراء والمهتمين ببناء الإنسان الذي هو مقدمة الأوطان .

أين موقعهم من الإعراب في بناء الإنسان والعناية بالشباب، وملء كل فراغ في عقولهم ونفوسهم وقلوبهم وعواطفهم؟

  • ـ تذكرنا تلك الصفوف والطوابير بظاهرة قريبة وهي اندفاع الآلاف واصطفافهم أمام السفارة الفرنسية ذات نوفمبر(قبل عامين)، للحصول على “الفيزا” للدراسة أو لغير الدراسة ..مع فارق بسيط أن هؤلاء اصطفوا في طوابير (ليلا) في مناسبة جليلة (أول نوفمبر) وكانت الرسالة واضحة ممن تعمّد ذلك ليقول: ها هو شبابكم طيّع بين يدي ّ..أفعل به ما أشاء…!!

وها هم يصطفّون أيضا للترفيه عن أنفسهم، وتتباهى وسائل الإعلام أن أكثر من خمسين بالمائة من التذاكر بيعت في يومين فقط لتقول لنا الصور مرة أخرى: ها هو شبابكم …شباب غناء ورقص و…ما يتبع .

  • من الدلالات المهمة هو بعدنا ـ نحن الآباء والأمهات ـ عن فهم ما يجري في عالم الشباب، في فضاء السماوات المفتوحة على كل شيء، عالم يتميز أكثر ما يتميز بانتقال المعلومة والصورة والأغنية والفيديو… في كل الميادين، بسهولة ويسر في الانترنيت. عالم زاخر بكل ألوان الترفيه والألعاب بما فيها القاتلة (الحوت الأزرق)..لنتذكر أن (قنوات الفيديو هي  الأكثر مشاهدة والأقرب إلى الشباب فضلا عن الوسائط الأخرى وفيها ما لا يعرف الكبار  حتى أسماءها ).
  • مع أن مدار الأمر كله هو الحلال والحرام، ولكن  لم نتحدث عن حلال وحرام فيما سبق وإنما أردنا إيفاء المشهد بعض حقّه في مواجهة ظواهر تطفو على سطح المجتمع بين وقت وآخر، وتستنفر كل قلب وكل عقل في سبيل تحليلها وفهمها والعمل على استيعاب حركة المجتمع وتبيّن معالم المستقبل باستشراف علمي ومعرفة دقيقة بهندسة الإنسان وما يطرأ عليه في ظلال رياح عولمة لا تبقي ولا تذر .. ومخابر تشتغل ليلا ونهارا من أجل الإفساد، وأقلّه الإلهاء والتلهية والترفيه وزرع مختلف “النباتات” في حدائق قلوب شباننا وشاباتنا.

ـ أخيرا ..ثمة شيء كبير اسمه “الهوايات”، وشيء آخر شقيق له قريب منه قربا حميميا يُسمى “أوقات الفراغ ” لم نجتهد ـ في تقديري ـ لمعرفة تفاصيله والاقتراب من مختلف محاوره وما يتطلبه من اجتهاد ووقت وعلم ودراسة وانكباب؛ لأنه لا يمكن ـ بأي حال ـ التربية بالضغط ولا بالإجبار..وإنما بالحب، بل بكثير من الحبّ، ومعرفة أشواق النفس وكل ما يتعلق بها …حتى يكون النمو عامرا بالخير والحب والنضج والاستواء . فهل نستفيد من المأساة في صياغة ورسم مستقبل مختلف نعمر به أوقات الفراغ لشبابنا فيما وبما ينفعهم؟ وهل يرتقي اهتمامنا بهم إلى مستوى طب القلوب ودوائها ، وطب النفوس وراحتها ؟ . أتصور أن ذلك جزء من الواجب الدعوي الإصلاحي نستطيع القيام به على وجه ما ، لنخفف من الخسائر ونجفف حقول الشر والرذيلة، بفتح أبواب الخير والجمال والحب والترفيه الراشد النظيف.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com