بمناسبة ذكرى رحيله الـ 46 مالك بن نبي والساحة الثقافية الفرنكوفونية/محمد مصطفى حابس
في مثل هذه الأيام وتحديدا بتاريخ 31 أكتوبر 1973 انتقل إلى رحمة الله تعالى مفكر العصر والأستاذ الرسالي مالك بن نبي، رحمه الله، وبهذه المناسبة لاحظت كما قد يكون لاحظ غيري أن تراث مالك بن نبي في بعض دولنا، لا يشار له إلا أيام وفاته، وباستحياء في بعض الدول الفرنكوفونية، إلا من رحم ربك.. وقد كنت قد اقترحت هذه الإشكالية في ورقة مطولة في 30 صفحة، يمكن أن تتطور لكتاب حسب أحد الزملاء، بعنوان: “مالك بن نبي وسؤال الحضور والغياب في الساحة الثقافية الفرنكوفونية”، وذلك في المؤتمر الدولي الذي ناقش موضوع “أسئلة النهضة في فكر مالك بن نبي”، وشارك فيه نخبة من الباحثين البارزين وتلاميذ مالك بن نبي، والذي دام 3 أيام كاملة في جامعة حمد بن خليفة القطرية من 2 الى 4 فبراير 2019م.
وتأسفت يومها لعدم تمكني من الحضور مع هذه الكواكب النورانية من أحباب فكر بن نبي و تلاميذه، علما أن بحثي قُبِلَ من بين الـ 30 بحثا الأوائل، وتعذر حضوري في آخر لحظة، أي بأسبوع فقط قبل انطلاق أشغال المؤتمر، وكان بحثي مهتم بجانب غاية في الأهمية للناطقتين بالفرنسية عموما، ولجاليتنا في الساحة الثقافية الفرنكوفونية خصوصا.
وتأتي أهمية بحثي بالساحة الفرونكوفيونية تحديدا، لعدة اعتبارات ذاتية وموضوعية، لأنه بحسب لغة الدراسة الجامعية وما قبل الجامعية لمالك بن نبي، وبحسب لغة التأليف والكتابة الصحفية، وبحسب القراءات المعرفية المبكرة وما بعدها، وبحسب لغة الاحتكاك الاجتماعي لفترة طويلة في عمق المجتمع الفرنسي، فإنه يعتبر فرانكفونيا من هذه الزوايا كلها، لأن اللغة التي كان يستعملها بتمكن، ويتواصل مع عالمها الثقافي الخاص، ومع العالم الثقافي الغربي المعاصر بصفة عامة، هي اللغة الفرنسية، ولن تفهم مؤلفات مالك إلا باللغة الأم التي كتبت به في أول عهدها، مهما اجتهد مترجموها و ناشروها للعربية.
مالك بن نبي من كبار الأدباء والمفكرين في الساحة الثقافية الفرنكوفونية
لا ننسى أنه بالنّظر إلى القدرات الفكرية العالية لمالك بن نبي، وإلى اللغة الأدبية الراقية، وإلى المنهجية العلمية الدقيقة، وإلى جدية الموضوعات المطروقة، فقد كان يفترض أن يحتل مالك بن نبي مكانة مرموقة في الساحة الثقافية الفرنكوفونية، كغيره من كبار الأدباء والمفكرين الفرنسيين وغيرهم من أبناء المستعمرات التي كانت تدور في الفلك الفرنسي.
الأسئلة الكبيرة التي تطرح نفسها بجدية :
ولهذا فإن الأسئلة الكبيرة التي تطرح نفسها هنا بجدية في ورقتي هذه وقد حاولت يومها الإجابة على بعض منها، وهي تحتاج إلى بحث ودراسة وتفسير واعتبار- خاصة من أصحاب الاخصاص-، هي:
– هل استطاع مالك بن نبي أن يسجل حضورا في الساحة الثقافية الفرنكوفونية في الجزائر والمغرب العربي خاصة، وفي العالم الفرنكفوني عامة؟ أين تجليات هذا الحضور على مستوى النخب والمجتمع؟.
– وإذا كان لفكر مالك حضور فهل يتناسب مع الإمكانات الفكرية العالية والكتابات النوعية التي أنجزها باللغة الفرنسية؟.
– وإذا كان حضوره باهتا أو هامشيا أو غائبا.. فما سر ذلك كله؟ وما هي الدلالات الثقافية والسياسية والحضارية لذلك كله؟.
– بعدها تطرقت في ذات البحث إلى المسؤوليات، الفردية والمشتركة، متسائلا عن ما هي مسئولية مالك بن نبي ذاته عن ذلك الغياب أو تلك الهامشية؟ وما هي مسئولية النخب الفكرية والسياسية الفرنكوفونية عن ذلك؟ وأين مسئولية تلامذته من ذلك كله؟ هل كان مالك بن نبي ضحية لأفكاره الجادة الأصيلة؟ أم لأسلوبه ومنهجيته الصارمة؟ أم للأمية الثقافية والحضارية التي كانت تعيش فيها قطاعات واسعة من الأمة؟
ربط أجيال المهاجرين بما هو جوهري ومفيد في فكرمالك
هذه هي الأسئلة التي حاولت دراستي أنفة الذكر طرحها والمساهمة في الإجابة عنها قدر الإمكان، من خلال محاولة تتبع آثار فكر الرجل في الساحة الثقافية الفرنكوفونية في الجزائر والمغرب العربي خاصة، والساحة الثقافية الفرنكوفونية عامة.
والعبد لله، بحكم ازدواجية لغته العربية والفرنسية، ووجوده في أوروبا منذ فترة طويلة، واشتغاله أيضا في المجال الثقافي والإعلامي، واهتمامه بفكر مالك بن نبي رحمه الله منذ أزيد من ربع قرن، وحرصه على ربط أجيال المهاجرين بما هو جوهري ومفيد في فكره، أردت أن استكشف هذا الموضوع بهذا البحث المتواضع عله يلقي بعض الأضواء على هذا الجانب في حياة المفكر المبدع مالك بن نبي ومصير فكره وتراثه، علما أن هناك اليوم اهتمام منقطع النظير في صفوف الأجيال الأخيرة للشباب الإسلامي في أوروبا و آسيا خاصة، تحتاج إلى تنوير و رعاية..
وبمناسبة ذكرى رحيل مالك بن نبي الـ 46 هذه، التي يصادف مرحلة يمر فيها الحراك في المختلف الولايات بلحظات تاريخية حاسمة خاصة في العاصمة التي افتتح فيها هذه الايام المعرض الدولي للكتاب (30 اكتوبر/ 9 نوفمبر 2019)، وإعادة عرض ونشر بعض كتب مالك، يطيب لي نقل هذا الإهداء الذي كان صدر به أستاذنا الشيخ الطيب برغوث كتابه: “مدخل إلى سنن الصيرورة الاستخلافية”، وهي عبار عن خلاصات تجارب و كتب بن نبي التي عنون بها باكورة أفكاره تحت شعار قوله تعالى :” إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” [الرعد:11]. وهذا الاهداء يدخل في صميم الهبة الشعبية اتي تعيشها الجزائر منذ أشهر، حيث كتب يقول – حفظه الله-:
إهداء إلى مالك بن نبي
إلى الرجل الذي علمنا وأقر في أذهاننا أن المنهج هو روح المعرفة.. وأن المعرفة المنهجية هي أساس الأصالة والفعالية والاطراد في الجهد البشري.. وأن الخطأ المنهجي خير من الصواب الفوضوي، وأن الطريق غير المنهجي هو أطول الطرق نحو الغايات والأهداف باستمرار.. وأن المنهج العلمي المتكامل، مَصْل واقٍ ضد مرض الفوضى والثرثرة واللامنطق واللافعالية.. التي تغيّب الحقيقة في اللفظية والحرفية والمبالغة.. وأن تغيير ما بالنفس، هو منطق حركة التاريخ ومنطلقها، وأساس التغيير الحضاري المنسجم مع سنن الله في الاستخلاف.. وأن غنى المجتمعات لا يقاس بكمية ما تملك من أشياء، بل بقدر ما فيها من أفكار حية متجددة، فهي الثروة الخالدة للمجتمع.. وأن التجديد الحضاري من ثم، يبدأ ويستمر ويعظم عطاؤه.. بتجديد الأفكار وليس بتجديد الأشياء أو المظاهر.. وأن الحس القانوني أو السنني، هو الهدف الذي يجب أن تتمحور حوله العملية التربوية، لبناء العقل المنهجي المنظم، القادر على الإبداع والإضافة والتجاوز.. وأن التربية يجب أن تعلم الأجيال الإسلامية، أن: “التاريخ لا يصنع بالاندفاع في دروب سبق السير فيها، وإنما بفتح دروب جديدة..”
مضيفا بقوله: “إلى الرجل الذي علمنا أن نأخذ منه ما عنده من العلم، وأن نأخذ من غيره ما عندهم من العلم، وكان إذا سئل فيما ليس في مجال اهتمامه يقول: اذهبوا عند فلان أو فلان..
إلى أستاذنا الكبير: مـالــك بــن نــبي رائد الاتجاه الحضاري في الثقافة الإسلامية المعاصرة.
رحم الله مالك بن نبي، و أجزل الخير له ولتلاميذه.. وكلل جهودهم بما هو نافع للبلاد والعباد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.