المرأة والوعي السياسي وفق ضوابط المشاركة في بناء المجتمع (1)/ محمد مكركب
يختلف الناس في النظر إلى دور المرأة في الحياة المعيشية وفي تعاونها وتعاملها مع الرجل، وفي ضرورات التكامل الاجتماعي بين بني الإنسان، فالله تعالى خلقنا على سنن فِطْرِية وَكَوْنِية لا يستغني الرجل عن المرأة ولا تستغني المرأة عن الرجل، ولابد من التكامل والمواجهة واللقاء والتخاطب والحوار والتعايش بين الرجال والنساء، وفق ضوابط أخلاقية ورد تبيان أصولها في الكتاب، تحدد كيفية التعامل في العلم والتعلم، في البيع والشراء، في العهود والعقود، وفي الإنجاب والتربية، والطب والرعاية، والسياسة والجهاد والحكم، أي وفق أحكام الشرع، تلك هي سنة الحياة التي شاءها الحي القيوم. إلا أن الناس يختلفون في فهمهم لدور المرأة ووجوب تكامل دورها مع دور الرجل، فمنهم من ينظر إلى المرأة على أنها لا تكلم أحدا من الرجال ولا يكلمها أحد ولا يخاطبها مباشرة ولا تخاطبه، فالمرأة عندهم إذا بلغت سن التكليف لا تتعامل إلا مع محارمها، فإذا خرجت من بيتها يجب أن تكون في معزل عن كل الرجال، وهذا مبلغ ما فهموه من بيان الرسالة السماوية، ومبلغ فكرهم أن تكون دنيا خاصة بالنساء ودنيا خاصة بالرجال، ولسنا هنا في صدد الحكم عن من المصيب ومن المصيبة. وتطرف ثان عند من ينظر إلى المرأة على أنها سلعة تباع وتشترى للإشهار والإغراء، والأغاني، والأفلام، وعرض الأزياء، فهي عندهم ما خلقت للعبادة والعمل الصالح كالرجل وإنما لعبة استمتاع في يد الرجل. وتطرف ثالث عند من نظر إلى دور المرأة على أنها كالرجل بالتمام، نظرة مادية بحتة، لا فرق عندهم بين الذكور والإناث، والقانون عند هؤلاء هو المنافسة المادية، فما تريد أن تعمله المرأة وتستطيعه فلها أن تعمله، ولها أن تلبس ما تشاء، بل وتتعرى كما تشاء، وعَدُّوا ذلك من قبيل الحرية، وبين دعوة كل هؤلاء المتطرفين ضاع الدين.
إن أول ما بدأت الحياة البشرية على هذه الأرض بدأت كما أراد الله الفعال لما يريد برجل واحد وامرأة واحدة، بآدم وحواء عليهما السلام، وتعاونا على بناء الأسرة ثم المجتمع ثم الدولة، وآدم وحواء هما الأب والأم لجميع بني الإنسان، الموجودين الآن في هذا الزمان، وهما {رجل وامرأة} قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً﴾(النساء:1) كل الرجال والنساء هم إخوة في النسب الآدمي خلقوا ليتعارفوا ويتآلفوا ويتعاونوا على البر والتقوى لا ليتقاطعوا ويتصارعوا، فكل الناس لآدم وآدم من تراب، خلق الله المرأة لتتعاون وتتكامل مع الرجل، وخلق الرجل ليتعاون ويتكامل مع المرأة، قلت: وقانون التعاون والتلاقي والتكامل تحكمه ضوابط شرعية وأدبية. قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾(سورة النحل:97) فالمرأة يمكن أن تكون طبيبة وتطبب كل الناس، أو معلمة وتعلم من كل أولاد الناس، أو تاجرة تبيع وتشتري مع كل الناس، وهكذا.
فكان على آدم وحواء في البداية أن يقيما أسرة ثم يقيما مجتمعا ثم يقيما دولة، ولم يكن يومئذ يستخدمون مصطلح الفصل بين السلطات، ولا الفصل بين العمل السياسي والشؤون الدينية، كما لم يكن يومها مفهوم الصراع على الكراسي والانقلابات والحروب الأهلية، كما هو اليوم بين المراهقين الكبار، ولا كان يومئذ وجود للانتخابات، ولم تكن بَعْدُ قد طرحت قضية مشاركة المرأة في العمل السياسي، كانت المرأة تسوس بيتها وشئون زوجها، وتمارس التجارة وترعى الأنعام كما يفعل الرجل، وتجمع الحطب، وتدافع عن الحارة والمدينة، وأمُّنا خديجة رضي الله عنها التي كانت تُسَيِّرُ أعمالها التجارية الكبيرة، كانت سياسية حكيمة في تجارتها، كما أنها كانت سياسية بارعة في تربية أولادها، وكانت أعلى نبلا وأكبر قدرا وحكمة في سياستها الدعوية والجهادية في مساعدة زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة في المراحل الأولى للبعثة. فما أجمل وما أعظم أن تكون كل النساء المسلمات في مستوى الوعي الفكري السياسي الذي كان عند خديجة رضي الله عنها، في الإخلاص للزوج وتحقيق الراحة له، والإخلاص لله بالتضحية بالمال وبالجهد والصبر في سبيل الدعوة إلى الله تعالى.
بالتأكيد أنكم قرأتم خبر موقفها مع النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدء الوحي، حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غار حراء يرجف فؤاده، إذْ دخل على خديجة رضي الله عنها، فقال:[زملوني زملوني] فزملوه حتى ذهب عنه الروعُ، وأخبرها الخبر: وهو يقول:[لقد خشيت على نفسي] فقالت: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به حتى أتت ورقة بن نوفل بنِ أسد بنِ عم خديجة.
فهذا من دور المرأة الواعية وعيا سياسيا في مفهوم الإيمان، فأين هي الزوجة التي تقف مع زوجها أيام الشدائد كما فعلت خديجة رضي الله عنها؟؟ ولم تقم بذلك الدور بمجرد غريزة فطرية أو عاطفة وجدانية أو عصبية عرقية نسبية أو مذهبية، إنما بخبرتها واستدلالها بمعرفة خصال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الإيمان بالقيم، والعلم بمعالم الصلاح في الرجال، كل ذلك أعطاها اليقين لأن تطمئنه وتثبته، وبعلمها ومعرفتها الدينية والتاريخية وما يدور في المجتمع عرفت بعضا من وسائل حل المشاكل واتجهت بالنبي عليه الصلاة والسلام إلى ورقة بن نوفل، فالمرأة الواعية السياسية يجب أن تكون متدينة وتعرف الصالحين المصلحين وتستعين بهم، وتملك الخبرة وتكون شُجاعة مستعدة للتضحية بمصالحها الخاصة في سبيل إسعاد زوجها وأولادها ومجتمعها ووطنها، لتنصر دينها.
إن دور المرأة في سياسة بناء الأسرة والمجتمع والدولة لا يقتصر على إنجاب الأولاد وتربيتهم، والعناية المتقنة في رعاية شؤون الزوج، وإن كان هذا هو الدور السياسي العظيم للمرأة لو أحسنته وتعلقت به وأتقنته، ولو اكتفت به، لكان أعظم سياسة تقوم بها، في إطار التكامل بينها وبين أخيها الرجل، وهذا عندما يكون الذكور رجالا، والإناث نساء، ثم عندما يكون المؤمنون بالانتساب مؤمنين حقًّا بالكتاب، وعندما يقوم الذكور بدورهم بجدارة واستحقاق، عندها يكون الرجل قائدا مفكرا قَوَّامًا بكفاءته وتقواه لاباستنكافه وعجزه وهواه، وتكون المرأة تابعة لعمل الرجل ومكملة له، ولكن في بعض الحالات لا يكون الذكور رجالا، وحينها تتقدم المرأة بكفاءتها في مجال التقوى والإحسان، وفي مجال العلوم والعمران ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾(النحل:128). روى الذهبي في سير أعلام النبلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد عن أمِّ عُمَارَةَ نسيبة بنت كعب المجاهدة[ لَمُقَامُ نَسِيْبَةَ بِنْتِ كَعْبٍ اليَوْمَ خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ](2/279) ومن يجهلُ أُمَّ سَلَمَةَ أم المؤمنين هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ المخزومية المجاهدة المهاجرة الصابرة المتيقنة؟ وغيرها كثيرات هن اللواتي سجل الرواة سيرهن في صفحات تاريخية أبهى وأغلى من الذهب.
المرأة في العصر الحاضر بالخصوص كما هي منذ قرون كما كانت في البصرة، وصنعاء، والمدينة، وبجاية، وقرطبة، وغرناطة، لها دور في تبليغ العلم والدعوة والصناعة والجهاد والإعلام والثقافة، وكل مقومات الحضارة، وقد أثبت الله تعالى دورها العام وبَيَّنَهُ بوضوح في آية التكافل بين المؤمنين والمؤمنات، قال الله تعالى:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾(التوبة:71) وقال تبارك وتعالى بشأن مشاركتها في الهجرة والجهاد في قوله تعالى:﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾(آل عمران:195) وهذه الآية توجب المساواة بين المؤمنين والمؤمنات في العمل والجزاء.
إن الله تعالى عندما أنزل قوله عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ لم يكن هذا الأمر للذكور فقط وحدهم، وإنما للذكور والإناث. والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يُصَلُّون ومعهم الرجال والنساء، وكانوا يجاهدون ومعهم الرجال والنساء.
(يتبع) في انتظار المقال الثاني…