في رحاب الشريعة

وأتموا الحجَّ والعمرةَ لله/ بقلم الشيخ الدكتوريوسف جمعة سلامة

 

 

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(1).

إننا نعيش في ظلال أيام مباركة من شهر ذي القعدة، حيث بدأت وفود الرحمن تؤم بيت الله العتيق، فعلى بركة الله تسير قوافلهم يحذوها الشوق والإيمان لتحظى ببركات أداء الحج والعمرة، والطواف بالكعبة المشرفة، وزيارة مسجد الحبيب– صلى الله عليه وسلم -.

فضل الحج والعمـرة

الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام وهو فرض على المستطيع بدنيًّا وماليًّا مرة واحدة في العمر، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(2)، وقوله- صلى الله عليه وسلم -: ( بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ )(3)، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الجزاء العظيم لمن حجَّ بيته العتيق حجاً مبروراً بأن يغفر له ذنوبه، فالحج من أفضل العبادات وأجلّ الطاعات.

كما أن العمرة عبادة عظيمة فيها منافع كثيرة نذكر منها: أنها تنفي الفقر والذنوب، فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلَيْسَ للْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلا الْجَنَّةِ)(4)، وروي عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  قال: (العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الجَنَّةَ)(5).

توجيهات لضيوف الرحمن

لقد رأيتُ -وموسم الحج قد أقبل- أن أساهم بقلمي المتواضع في بعض التوجيهات أُسْديها لأحبائي ضيوف الرحمن، فإذا أردتَ أخي الحاج: أن يكون حجك مبروراً ليصدق عليه قول الرسول الأكرم – صلى الله عليه وسلم- :  (الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ)(6)، فعليك أن تتأدب بآداب الحج وواجباته وهي كثيرة، وحسبك أن نذكر منها:

الإخلاص لله تعالى، والتوبة إليه سبحانه وتعالى، وقضاء الديون، وكتابة الوصية، وردُّ المظالم لأهلها، وتعلّم أحكام الحج والعمرة، والحرص على أن تكون النفقة من المال الحلال الطيب، ووداع الأهل والأحبة، والبحث عن الرفيق الصالح، والإكثار من الدعاء لقوله – صلى الله عليه وسلم – : (الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ)(7).

شدّ الرحال إلى الحرمين الشريفين

* المسجد النبوي في المدينة المنورة: المدينة المنورة  مُهاجر النبي – صلى الله عليه وسلم- ومثواه، وهي من أطهر بقاع الأرض، ومنها انتشر نور الإسلام وعَمَّ أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً، وفيها المسجد النبوي الشريف الذي هو أحد ثلاثة مساجد لا تُشَدّ الرحال إلا إليها، كما جاء في الحديث أن  رسول الله – صلى الله عليه وسلم -قال: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- وَمَسْجِدِ الأَقْصَى)(8 )، وقوله- صلى الله عليه وسلم – أيضاً: (صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خيرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)(9) .

فإذا أكرمك الله – أيها الحاج – بالوصول إلى تلك الربوع الطاهرة، وملأتَ عينيك من تلك الرياض على ساكنها -أفضل الصلاة والسلام-، فتأدب مع صاحبها، واشتغل ما دمتَ هناك بغرضك الذي جئتَ من أجله، فالصلاة في المسجد النبوي والأدعية فيه مشروعة ومستحبة في أي وقت طوال العام، فإذا وفق الله المسلم وَيَسَّرَ له الوصول إلى بلاد الحرمين الشريفين، سُنَّ له الذهاب إلى المدينة المنورة للصلاة في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم –، حيث إن الصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، واحرص أخي الحاج إن أكرمك الله بذلك، وبعد أداء الصلاة، أن تُسَلِّم على سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وعلى صاحبيه الكريمين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما -.

* المسجد الحرام في مكة المكرمة: مكة المكرمة هي مهبط الوحي الذي عَمَّ البلاد، وفيها المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}(10)، وهي المكان الذي وُلِدَ فيه رسولنا – صلى الله عليه وسلم –، ومنها بزغ فجر الدعوة الإسلامية على الدنيا بأسرها.

فإذا دخلتَ أخي الحاج مكة المكرمة، ووقع بصرك على الكعبة المشرفة،  فقل: ( اللهمَّ زِدْ هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وَزِدْ مَنْ شرّفه وعظّمه مِمَّن حجّه واعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً، اللهم أنتَ السلام، ومنك السلام، فَأحينا ربنا بالسلام )، فأنتَ -يا أخي الحاج- في جوار الله وفي ضيافته، فحيي بيته أولاً بالطواف، واستكثر من الصلوات بلا كَلَل، واعلم أن ركعة في بيت الله الحرام تساوي في الفضل مائة ألف ركعة فيما سواه، واخفض من صوتك، واغضض من بصرك، وأحسن لمن أساء إليك، وكن كالنخلة يقذفها الناس بالحجارة وتلقي إليهم الرطب الجني، وإن استطعتَ أن تكون خادماً للضعفاء وعوناً لذي الحاجة، فلا تبخل بما أعطاك الله من صحة ومال، فإنّ من أجلّ مناسك الحج التعاون على البر والتقوى، وعليك أن تغتنم وجودك في رحاب البيت الحرام لفعل الطاعات واجتناب المنهيات، فتُكثر من الصلاة والتسبيح والتكبير والتلبية والدعاء.

الأخوة الإيمانية في الحج

يجتمع المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها في مهبط الوحي الذي عمَّ البلاد أثناء تأديتهم لمناسك الحج، مستجيبين لدعوة أبيهم إبراهيم – عليه الصلاة والسلام- عندما أمره الله سبحانه وتعالى بقوله:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(11)، فتنصهر جميع الأجناس في بوتقة إيمانية واحدة، فقد جمع ديننا الإسلامي الحنيف بين أبي بكر القرشي الأبيض، وبلال الحبشي الأسود، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، فجعلهم إخوة متحابين بعد أن كانوا أعداء متخاصمين، وفي الحج يتجلى معنى الوحدة الإنسانية، وتتجلى المساواة في أبهى صورها فلا عنصرية ولا عصبية للون أو جنس كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ}(12)، فَهَا هُمْ ضيوف الرحمن قد جاءوا من كل حدب وصوب ليعلنوا للبشرية جمعاء، بصوتٍ واحد وفي صعيد واحد، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الإسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبهذا يُجَسّد الحج الأخوة الإنسانية ويزيل عنها ألوان التمايز والتفاخر بالنسب والجاه، فلا فرق بين أبيض وأسود وكبير وصغير وغني وفقير، لباسهم واحد وتوجههم واحد وصوتهم واحد، فتتحد الألسنة وتتآلف القلوب وتخرج الإجابة من حناجر صادقة وأفواه طاهرة: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).

حجاجنا الكرام: يا مَنْ يسّر الله لكم الحج في هذا العام، أسأل الله أن يتقبل حجكم، وأن يردكم سالمين إلى أوطانكم، كما نتمنى أن يهيئ الله الأسباب لجميع المسلمين كي يتمكنوا من أداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وكلنا ثقة وأمل فيكم  وأنتم تنعمون بالصلاة في المسجد النبوي الشريف وتطوفون حول الكعبة المشرفة، أن تتذكروا أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين المسجد الأقصى الأسير، وأن تتضرعــــوا إلى الله بالدعـــــاء بأن يفك أسره، كما تسألوه سبحانه وتعالى أن يجمع شمل الأمتين العربية والإسلامية، وأن يوحد كلمتهم ويؤلف بين قلوبهم، إنه سميع قريب.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الهوامش:

1- سورة آل عمران الآية (96-97).

2- سورة آل عمران الآية (97).

3- متفق عليه.

4- أخرجه الترمذي.

5- أخرجه البخاري.

6- أخرجه البخاري.

7- أخرجه النسائي.

8- أخرجه البخاري.

9- أخرجه البخاري.

10- سورة البقرة الآية (125).

11- سورة الحج الآية (27).

12- سورة الحجرات الآية (13).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com