الحلقة الثانية/ خير الدين هني
حينما كانوا يتشوفون إلى السلطة والقيادة بشغف كبير، وهو عمل يخرج صاحبه عن الحق الذي اتفق عليه أكابر العلماء المحايدين، وفي هذا الموضوع الشائك بتعقيدات التأويل، قال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في إحدى فتاواه:” كل طريقة وكل نحلة يحدثها الناس تخالف شرع الله، فهي داخلة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“، وداخلة في الحديث الصحيح:”ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة“. وفي رواية أخرى:”ما أنا عليه وأصحابي“. فكل طريقة أو عمل أو عبادة يحدثها الناس يتقربون بها إلى الله ويرونها عبادة، ويبتغون بها الثواب وهي تخالف شرع الله، فإنها تكون بدعة، وتكون داخلة في هذا الذم والعيب الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على جميع أهل الإسلام أن يَزِنوا أقوالهم، وأعمالهم وعباداتهم بما قاله الله ورسوله، وما شرعه الله، وما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بما وافق الشرع وما جاء في كتابه، وما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعرضوها عليها فهذا هو الحق المقبول، وما خالف كتاب الله، أو خالف السنة من عباداتهم وطرقهم فهو المردود، وهو الداخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“.
هذا هو المنهج الصحيح الذي يؤخذ في الاعتبار عند التأويل، وهو ما أفتى به الشيخ –رحمه الله-، أي: بعرض الأعمال على كتاب الله وسنة رسوله، أما محدثات الأمور من الأعمال والأقوال التي تؤدي إلى التأويل الفاسد، فهي رد، لقوله صلى الله عليه وسلم:”من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“.
والفرق التي تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم، بخروجها عن الحق، اتخذت من التأويل سبيلا للعبث بشرع الله، وقد ظهرت في مبتدأ الأمر، ضمن الفرق السياسية التي نازعت المهاجرين الأولين في شرعية وصولهم إلى إمامة الناس، إذ لا يستساغ شرعا أن يتولى أمر الخلافة من هم دون المهاجرين سابقة وبلاء ومنزلة عند الله ورسوله. وتفرع من الفرق السياسية الأولى، وبسبب احتدام التنافس والصراع والنزاع السياسي والمذهبي والطائفي والشعوبي، فرق كثيرة كفرق الشيعة والخوارج والإباضية وغيرها، وهي فرق كانت بواعث منشئها الأصلي سياسيا، ثم تطورت لتصبح فكريا وفلسفيا ومذهبيا، وكانت النزعة المحركة لدى هذه الفرق هو النزوع المفرط نحو تأويل النصوص، كيما يتخذون من مضامينها سندا شرعيا، يتلاءم مع ميولهم واتجاهاتهم السياسية أو المذهبية أو الفلسفية.
وبما أن السياسية هي أصل لكل المشكلات، وبؤرة لكل التوترات والمنازعات، وحين تتفاقم مشكلاتها وتنتشر بين الناس، تبرز مدارس فكرية جديدة تتناول مجمل الأفكار التي انبثقت من وقائعها وأحداثها، كالذي وقع بعد الفتنة الكبرى بين الصحابة، فطرحت أفكار فقهية لم تكن معروفة من قبل، منها مباحث كلامية تناولت مصير من يقترف الكبائر من الذنوب، وقد وقع ذلك حينما رأى العلماء طغيان انتشار ظاهرة القتل والتقتيل بسبب التنافس على الحكم، فأزهقت فيها أرواح الآلاف من المسلمين، ولما ذاع استحلال سفك الدماء بين الناس وألفوه واعتبروه أمرا عاديا، امتدت أيديهم إلى ما ظنوا أنه دون ذلك، فتساهلوا في ارتكاب الكبائر من الآثام، كالسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر والزنى وأكل أموال الناس بالباطل، وحسبوا ذلك هينا عند الله قياسا بالدماء، فلما استفحل ذلك أخذ المتكلمون يبحثون في عواقب من يرتكب الكبائر بحثا كلاميا، وهل هو مؤمن أو كافر أو فاسق أو بين المنزلتين؟ وكان الخوارج قبلهم، أول من طرح هذه الأفكار الفقهية التي تأولوها، بسبب قبول علي بالتحكيم.
ومن هنا أخذت المدارس الفكرية والكلامية والفلسفية تبرز إلى الوجود، كالاعتزال والإرجاء والأشعرية والماتريدية، ثم تطورت هذه المباحث إلى أن وصلت إلى الذات الإلهية، بالبحث في أسماء الذات، وصفات العلم والقدرة والإرادة، وحدوث فعل الاستواء والنزول والحركة والتحيز والإحاطة، والتمثل في صورة من صور خلقه كشعلة النار، وما تعلق بالغيب والبعث والنشور، والصراط والنعيم والعذاب والرؤية السعيدة، وغير ذلك مما هو معروف في مباحث المتكلمين والأشعريين والفلاسفة.
وكان تأويل المتشابه من القرآن والحديث، هو السند الشرعي الذي ينزع إليه المفسرون والمتأولون، ليجدوا مخارج يستندون إليها في التوفيق بين ظواهر النصوص، ونزوعهم الفكري أو السياسي والعقدي والمذهبي والكلامي والفلسفي، وظلت الحياة هكذا مرتكسة تسير على هذا النهج المضطرب قرونا عديدة ومديدة، وقد وجدت الفرق فيه ضالتها تستلهم منه أفكارها ومشاريعها السياسية والمذهبية، وكل يعتقد بأنه هو المصيب وعلى نهج الجماعة، وغيره هو المخطئ والضال المضل وعلى غير هدى.
وإذا كان التأويل السياسي مذموما، لأنه أدى إلى الاقتتال وسفك الدماء، وتفريق الأمة إلى فرق وأحزاب متناحرة ومتنافرة، وقد استفحل الشر بينهم إلى درجات عليا من العنف والعداوة، إلا أنه كان نعمة على الفكر والعلوم، حيث أنتج ثروة كبيرة من المعارف المختلفة وذات القيمة والاعتبار، إذ جعلت الحواضر الإسلامية منارة حقيقية، تشع منها أنوار العلوم والمعرفة والفلسفة، ولذلك كانت هذه الحواضر قبلة للعلماء والمفكرين وطالبي العلم، فأقبلوا من أصقاع بلدان العالم لينهلوا من عطائها وفيوضها المتدفقة.
وكان الشيعة أكثر الفرق المتأولة في السياسة والحكم، وقد تفرقوا إلى شيع ومذاهب، وبعضهم خرج من الدين كلية، كالقرامطة المنشقين عن الفاطميين بسبب الاختلاف في تأويل من أحق بالإمامة، وهم الذين هاجموا مكة المكرمة قادمين من البحرين في موسم الحج، فقتلوا زهاء ثلاثين ألفا من أهل مكة ومن الحجاج، وسبوا النساء والذراري، وخلعوا باب الكعبة.
وفي رواية عن ابن كثير أنه حين أمر أبو طاهر القرمطي بقلع الحجر الأسود، جاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه إلى بلادهم. وسلبوا كسوة الكعبة وكل ما وقع تحت أيديهم من جواهر وأموال ونفائس، وبقي الحجر الأسود عندهم نحو اثنتين وعشرين سنة، وكانوا – لفسوقهم ومروقهم واستهتارهم- يرمون الموتى في بئر زمزم، حتى ضاق بهم البئر.
وكان زعيمهم طاهر القرمطي، يجعل فرسه يبول على مقامات الكعبة، ويردد قوله:”أنا الله والله أنا أخلق الخلق وأفنيهم”، ثم أمر أتباعه بنزع ميزاب الكعبة، وهو يقول: ألم يقل الله: “ومن دخله كان آمنا”. وهو يقصد السخرية، ثم أعادوا الحجر الأسود إلى مكة بعد اثنين وعشرين سنة من نزعه، بعد أن هددهم الخليفة الفاطمي.
ومن أغرب ما سجله التاريخ من أعمال وأقوال هؤلاء الفاسقين الضالين المتأولين بالكذب والتضليل، ما كتبه شقيق أبي طاهر في رسالته التي بعث بها عند رد الحجر الأسود تحت التهديد، جاء فيها:”أخذناه بقدرة الله ورددناهُ بمشيئة الله”، ألم تر معي أن هذا هو الكذب والبهتان والضلال والفسوق والتلاعب بأحكام الدين وقدسيته، يعملون أعمال مردة الخارجين عن الدين، ويستشهدون بكلام الله وسنة رسوله، لتبرير جرائمهم وشنيع أعمالهم، وفي كلام طاهر القرمطي ” أنا الله والله أنا أخلق الخلق وأفنيهم” دليل على فسوقه وفجوره، وأنه كان من المؤمنين بوحدة الوجود التي هي كفر بواح لا يقبل الشك، وهذا المذهب الفلسفي هو ما يعتقده غلاة الصوفية ممن يؤولون النصوص بالتأويل الباطني، وقد صرح به شيخهم الحلاج حينما قال:” ليس في الجبة إلا أنا والله”.
ويشارك الصوفية في التأويل الباطني فرقة الحشاشين الإسماعيلية، ولكن لكل طريقته ومذهبه واعتقاده، وهم ممن جعلوا للقرآن معنى ظاهرا مخصوصا بعوام الناس لمناسبته لمداركهم البسيطة، ومعنى باطنا لا يعرفه إلا خواصهم وقد استلهموه من الأئمة المهديين المعصومين من أهل البيت المتوارين عن الناس، وكان أكثر فرق الشيعة اعتدالا هم الزيدية باليمن.
والزيدية نسبة إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهي إحدى فرق الشيعة الثلاث:( الزيدية والاثني عشرية والإسماعيلية). ولكن “الزيدية أعدلها وأقربها إلى مذهب أهل السنة”، ويتمركز المنتسبون إلى هذا المذهب في الجزء الشمالي من اليمن ومنهم الحوثيون اليوم، وهؤلاء قريبون من السنة في مذاهبهم الاعتقادية، وقد حكموا في اليمن نحوا من ألف سنة، وآخر ملوكهم هو الإمام أحمد بن يحي الذي أسقطته الحركة الثورية التي قادها ما أطلقوا على أنفسهم حركة الضباط الأحرار، سنة 1962.
ويتفق الشيعة مع عموم المسلمين في وحدانية الله، ونبوة محمد ونزول القرآن وحيا عليه صلى الله عليه وسلم،، إلا أن الاختلاف مع أهل السنة وبعض فرق الشيعة الاثنا عشرية، يتركز على أن القرآن يحمل تأويلا باطنا مخالفا عما هو عليه في ظاهر اللفظ، وهذا ما يؤاخذه عليهم أهل السنة وبعض الاثنا عشرية عليهم، فأطلقوا عليهم اسم الباطنية . وهذه المعاني والحقائق الباطنية الخفية الموجودة وراء الكلمات الألهية في القرآن والكتب السماوية، لا يدركها إلا الأئمة العالمون من أهل البيت، وهي تخفي حقائق الوجود المستورة خلف هذه الكلمات الألهية، وتخفى على كل الناس ولا يمكن رؤيتها إلا بأذن الله لخواصه.
ويختلف الشيعة عن أهل السنة في تأويل أمر الولاية، فيعتبرونها مفهوما سياسيا وقياديا. يضطلع بها الرئيس أو الملك أو السلطان، ويوجبون طاعة الوالي أو الإمام ما دام على الحق ثابتا، ولكنهم يجوزون الثورة عليه وخلعه، في حال كان ظالما أو معتديا أو متخاذلا.
والشيعة يجعلون من الأئمة المعصومين –في تأويلهم- مصدرا شرعيا ليأخذوا منهم أحكام شريعتهم وفقههم، وكل التعاليم التي تدخل في مذهبهم مأخوذة من الأئمة وحدهم، ولا يقبلون مصادر أهل السنة مراجع للتشريع، لأنهم يعتبرونها مصادر منحرفة وخارجة عن الإسلام، لكونها تقر خلافة الخلفاء الراشدين وتزكيها وتجهلها أصلا من أصول الولاية الشرعية، وهي لا تعتبر الأئمة من أهل البيت معصومين، ومخصوصين بالولاية دون غيرهم من قريش أو عامة المسلمين، ولذلك نرى مصادرهم تشنع بالصحابة، وتنال من أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة، وسائر الصحابة ممن أحدثوا – في زعمهم- بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بالكفر حين وافقوا على اغتصاب الولاية من علي كرم الله وجهه، وقد أوردوا نصوصا مروية عن أئمتهم، وغير ثابتة عند أهل السنة، ليستندوا إليها في تخريج أحكامهم الشرعية، لتبرير اعتداء الخلفاء الراشدين والأمويين على الولاية.
يتبع