منطقة القبائل بين الأصالة الراسخة وزبد التنصير / عبد الحميد عبدوس
كالجمر تحت الرماد تستعر بين الفينة والأخرى في قلب الأحداث تداعيات الحركة التنصيرية في الجزائر، أو بالأحرى الممارسات غير القانونية لبعض الكنائس المسيحية غير المعتمدة، وهذا ما دفع في الآونة الأخيرة سلطات ولايتي تيزي وزو وبجاية إلى غلق كنائس مسيحية بعد تلقي المصالح المختصة العشرات من الشكاوى من طرف المواطنين، ولم يمس الغلق الكنائس الكاثوليكية والإنجليكانية التي تمارس نشاطها بصفة قانونية في الجزائر.
وصل عدد الكنائس البروتسانتية التي تم تشميعها خلال عام إلى 12 كنيسة في ولايتي تيزي وزو وبجاية تطبيقا للإجراءات التي نص عليها قانون تنظيم ممارسة الشعائر الدينية، الصادر في فيفري 2006 المنظم للحريات الدينية لغير المسلمين بالجزائر، كما طالب صلاح الدين شلال رئيس الكنيسة البروتستانتية في الجزائر بإلغاء قانون تنظيم الشعائر الدينية الصادر قبل 13سنة، وسبق لهذا الشخص أن ندد في شهر أوت الماضي (2019) خلال ندوة في دار حقوق الإنسان بتيزي وزو بقانون تنظيم الشعائر الدينية ووصفه بأنه ” أداة قمع في يد السلطات”، كما خرج عدد من المتنصرين في تجمعات احتجاجية أمام مقرات ولايتي تيزي وزو وبجاية للتنديد بما يزعمون أنه تضييق يمارس عليهم.
طابع الاحتجاج والتشكيك في هذه الإجراءات القانونية التي لجأت إليها السلطات الجزائرية ضد كنائس فوضوية وجد صداه في الجرائد الفرنسية في فرنسا، والجرائد المفرنسة في الجزائر. فجريدة ( لاكروا) كتبت تحت عنوان “البروتستانت مستهدفون في الجزائر” وادعت الجريدة الفرنسية في مقالها أن:” السلطات الجزائرية تمنع الجالية البروتستانتية في منطقة القبائل التي تعتبر في طليعة الحركة الاحتجاجية ضد النظام العسكري من ممارسة شعائر دينهم”.
أما جريدة (الوطن) الجزائرية المفرنسة، فقد خصصت صدر صفحتها الأولى إلى هذا الموضوع تحت عنوان “حرية ممارسة الشعائر الدينية تطرح من جديد” واعتبرت إجراءات تشميع الكنائس التي تمارس أنشطتها بصفة غير قانونية في أماكن غير مرخصة بأنه يعطي “صورة سيئة عن البلد وتظهرها في صورة دولة تقمع حرية الأقليات الدينية”.
ويتساءل المرء عن مبرر هذا الانطباع أو الحكم المتحيز الذي يجعل تطبيق القانون في بلد معين كفيل بأن يظهره في صورة دولة تقمع الحريات الدينية، اللهم إلا إذا كان الأمر يتعلق بالدعوة إلى التغاضي عن تطبيق القانون عندما يتعلق الأمر بالديانة المسيحية للتجمل في أعين القوى المسيحية في العالم.
من جهتها ذهبت جريدة “ليبرتي” المفرنسة إلى أن ما قامت به السلطات الجزائرية من إجراءات ضد الكنائس الإنجيلية المخالفة للقانون الجزائري الخاص بتنظيم الشعائر الدينية لغير المسلمين هو: ” شكل من أشكال تصعيد القمع ضد الحراك، وأن الغلق الإداري لأماكن العبادة المسيحية جاءت لتعوض حملة مطاردة الراية الأمازيغية، وهي كلها إجراءات جاءت لاستفزاز منطقة القبائل”. ونفس هذا الرأي المتحيز والمتطرف صدر على مواقع التواصل عن الأستاذ الجامعي ناصر جابي، الذي تعودنا على نشاطه المتواصل في صفوف الحراك كأحد أبرز الوجوه الثقافية في ميدان علم الاجتماع.
أما جريدة (النهار) المعربة فقد ادعت في تعليقها على حدث تشميع “كنسية الإنجيل الكامل” الواقعة بوسط مدينة تيزي وزو أن هذه الكنيسة:” تتوفر على كل الشروط الإدارية التي تسمح لها بممارسة نشاطها الديني بكل حرية”، وذلك رغم أن المصادر المطلعة تؤكد أن أغلبية الأماكن التي تم غلقها فتحتها جمعيات مسيحية بطريقة فوضوية بعيدا عن أعين المصالح المعنية، وهي عبارة عن مستودعات وبنايات مهجورة وأقبية، وحتى أماكن لتربية الدجاج.
تعتبر الكنيسة البروتستانتية الأكثر نشاطا من بين الكنائس المسيحية في عمليات التنصير في مناطق القبائل الصغرى والكبرى، كما أنها أكثر الكنائس المسيحية الموجودة في الجزائر استفزازا لمشاعر غالبية المواطنين وتحديا للقانون وقرارات السلطات الجزائرية.
أما أسباب تركيز هذه الكنيسة الإنجيلية في نشاطها التبشيري على منطقة القبائل، فهي أسباب سياسية ودينية لا تختلف كثيرا عن الأهداف التي سعى إلى تحقيقها التبشير الاستعماري الفرنسي، الذي لم يحقق فيها سوى نتائج هزيلة، مقارنة بحجم الجهد والإمكانيات المرصودة لتنصير المنطقة طوال قرن وثلث القرن، ألا وهي تكوين منطقة معزولة عن الثورة ومفصولة عن المجتمع الجزائري المسلم، ولكن الزوايا والمدارس القرآنية المنتشرة في بلاد القبائل كانت بمثابة حصون للهوية الإسلامية وقلاع ضد التغلغل الثقافي الاستعماري والنشاط التنصيري. أما في الحاضر فإن النشاط الكنسي البروتستانتي يهدف إلى تكوين أقلية مسيحية في منطقة القبائل تكون ذريعة للتدخل الخارجي لحماية الأقليات.
بعد استرجاع الاستقلال ساهمت بعض الظروف في خدمة النشاط التبشيري البروتستاني في منطقة القبائل، منها أن المنصرين الجدد أصبحوا يحملون ملامح جزائرية وأسماء جزائرية على غرار صلاح الدين ومصطفى وسعيد وكريم وطارق.. إلخ، بدل شارل وجان وبيار وهنري وتيريزا. وقد أصبح عدد المتنصرين يعد بالآلاف، بعدما كان في السابق منحصرا في بضعة عشرات أو مئات من الأشخاص. وقد ساهمت حركة (العروش) التي جثمت بكلكلها على منطقة القبائل لعدد من السنين في إخلاء المنطقة من سلطة الدولة وتوسع نطاق اللا قانون التي أوجدت الجو الملائم لتمدد حركة التنصير، والمعروف أن المدعو بلعيد عبريكا الذي اختطف الزعامة من تنظيم “حركة المواطنة” المعروفة باسم “العروش” كان مسيحيا متنصرا يعادي الإسلام ويصفه بأنه احتلال فكري، ويعتبر أحد أبرز المساهمين في انتشار التنصير بين الشباب الأمازيغي، ويقول:” إن المسيحية هي الدين الأصلي للأمازيغ مستشهدا بالقديس أوغسطين”.
وأتذكر أنني في سنة 2003م وهي فترة أوج هيمنة حركة العروش على منطقة القبائل، كنت بصحبة العلامة الشيخ عبد الرحمن شيبان ـ عليه رحمة الله ـ الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ضمن وفد يشرف عليه الدكتور أبو عبد الله غلام الله وزير الشؤون الدينية والأوقاف ـ آنذاك ـ مدعوين لتدشين زاوية سيدي بالوى ” أبي اللواء ” الواقعة في بلدية تيزي وزو.
وكانت حركة العروش، قبل ذلك، قد عممت في المنطقة أمرا بمنع السلطات الرسمية من دخول منطقة القبائل، وقبل وصولنا إلى مقر الزاوية اعترض طريقنا بعض نشطاء حركة العروش تنفيذا لتعليمة عبريكا. وحاول شيخ زاوية سيدي بالوى إقناع أتباع عبريكا من حركة العروش بفسح الطريق أمام الوفد الزائر، ولكن تعنت المعترضين أصاب شيخ الزاوية بغضب شديد، وهدد بدوره أتباع عبريكا بأنه سيلجأ إلى القوة لحماية الضيوف وحرمة الزاوية، وكان شيخ الزاوية مؤيدا بعدد كبير من أتباع الزاوية وسكان المنطقة المتمسكين بأصالتهم الإسلامية وتقاليد المنطقة في نصرة الضيف وإكرامه. وأمام غضب الشيخ وسكان المنطقة لجأ أتباع عبريكا إلى مخرج سلمي للحفاظ على ماء الوجه، فأعلن الناطق باسمهم أن نشطاء حركة العروش يسمحون استثناء بزيارة الوزير غلام الله والوفد المرافق للزاوية بصفة غلام الله عالما لا بصفته وزيرا في الحكومة.
وبذلك تتفادى الكارثة ومرت الزيارة بسلام. وهذا دليل على أن أغلبية سكان القبائل يبقون متمسكين بوحدتهم الوطنية وأصلاتهم الدينية الإسلامية، وأن التنصير في هذه المنطقة الشامخة العريقة هو مجرد زبد لا يمكث في الأرض.