الاختلاف في التأويل هو سبب افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة/ أ. هني خير الدين
تفرق الأمة على “ثلاث وسبعين فرقة”، كما جاء في الحديث الصحيح، إنما يعود سببه إلى اختلافهم في فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لعدم الاستناد إلى التدقيق في أصول الشريعة وأهدافها المقدسة، واستنباط أحكامها من الروح التي يدل عليها مضمون التشريع الإسلامي بقواعده الحكيمة. إذ لا يدرك هذه الروح العبقة إلا الراسخون في العلم والفهم والقدرة على الاستنباط، والناس ليسوا سواء في التحصيل والرسوخ العلمي، وليسوا سواء في الفهم والقدرة على الاستنباط، وليسوا سواء في القدرات الذهنية والملكات الإدراكية، كما أنهم ليسوا على قدر واحد في مواهبهم ونياتهم ومقاصدهم التي يرومونها، وفي مذاهبهم ومشاربهم واتجاهاتهم.
وهذا الاختلاف في التأويل، أدى إلى إنتاج تراكم كبير من المعارف المختلفة والمتضاربة فيما بينها، وهو الأمر الذي شكل ظواهر ثقافية وفكرية مختلفة المشارب، ولا ريب في أن هذه الظواهر الثقافية بمختلف اتجاهاتها ومذاهبها هي من شكل العقل العربي والإسلامي لارتباطهما بهذه الظواهر ارتباطا وثيقا، وهي من أثر في بنيتهما الفكرية وطرق تفكيرهما، وفي وعيهما وحالتهما النفسية والوجدانية والسلوكية، وما ترتب على ذلك من مشكلات معقدة أثرت على كينونتهما، وبنيتهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلائقية، فهذه الظاهرة التأويلية المختلف فيها، هي ما شكل أحد أهم العوامل التي أثرت على وعيهم وحركة تفكيرهم، وجعلتهم يصابون بنكسات بعد نكسات، في بنياتهم التفكيرية والتصورية والمفهومية.
وقد استغرقت هذه الانتكاسات أزمانا طويلة، رافقت مسيرتهم التاريخية والحضارية والعلائقية، وكانت أول نقطة مفصلية في الاختلاف في التأويل السياسي، ما وقع بين الأنصار والمهاجرين، رضي الله عنهم، في السقيفة على من له أحقية الحكم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسام، ومنذ ذلك التاريخ ومسألة التأويل مطروحة بشكل تراجيدي، إذ أنهكت الأمة في إفراغ كل طاقاتها في التأويل باجتهاد سياسي منهك، كان يناقض بعضه بعضا، ونشأ عن ذلك الاجتهاد اتجاهات سياسية جديدة، أصبح التنازع فيها هو الذي ميز حلقة الصراع الدموي الذي اتسع نطاقه وأزهق الآلاف من الأرواح، وأهدر قيما ضخمة من الأموال، للتعبئة والاقتتال من أجل الحكم وامتيازاته.
وطوال فترات التاريخ إلى يومنا هذا، والأمة في بحار من الدماء، ولم تسلم أي منطقة في الجغرافيا العربية والإسلامية من التنازع والاقتتال وسفك الدماء، وهدر المال العام بغير حسيب ولا رقيب.
وكان لابد للفرق المتنازعة أن تبحث عن سند شرعي، لتتخذه مرجعا أساسا في استنباط مخرجات فقهية تبرر بها أحقيتها في طلب الحكم، وكانت نصوص القرآن والحديث مادة دسمة في اتخاذها مرجعا للتأويل، وكان لهذا الاستغراق في التأويل أن أدى إلى تخريجات سياسية في معظمها كانت غير ملائمة لروح التشريع، وقد نتج عنها وقوع أحداث دامية، أثرت تأثيرا بالغا على وحدة الأمة وتماسكها، وقوتها وتطورها وعلو مكانتها في الأرض.
لقد اختلف السياسيون ومن ورائهم العلماء والفقهاء، ممن يقفون خلفهم، في تأويل النصوص اختلافا كبيرا، وقد يكون الاختلاف ناتجا عن حسن نية وسلامة قصد، وقد يكون لغايات سياسية ونفعية يسعى إليها من تستهويهم مغريات الحكم ووجاهته، وزاد من تفاقم المشكلة أن توسعت دوائر التأويل، وتراكمت نواتجه بمخرجات معقدة، إذ تضاربت فيها وجوه الاختلاف بين المتنازعين، مما جعلهم يقحمون مسائل النسب وسلسلته التراتبية في أحقية طلب الحكم.
وقد اتخذت الدعاية للنسب الشريف – كلعبة سياسية ذكية- مأخذا شابه الكثير من التلفيق والتدليس على جوهر الحقيقة، وجعلت في أي تأويل سياسي بغية إيجاد السند الشرعي الذي يتكئون عليه في تبرير أعمالهم، ويعززون به مطالبهم التي لا تنتهي عند حد معين، ومن أجل تحقيق ذلك كثفوا من اجتهادهم ليرفعوا به درجة التنافس على التأويل، قصد تكييف معاني النصوص لتتلاءم مع رغباتهم واتجاهاتهم السياسية.
ولا ريب في أن الإفراط في التأويل الموجه نحو غايات مقصودة، لتحقيق مرام سياسية أو عقدية أو مذهبية، أدى إلى الاختلاف البيّن والمتناقض في مخرجاته، كل يريد أن يجعل لنفسه حقا في الفهم الصحيح دون غيره من المنافسين والمناوئين والخصوم، وكانوا في البداية وقبل أن تتعقد الحياة السياسية والمذهبية والفلسفية، قد وقع بينهم اختلاف كبير في تأويل من هو أحق بالخلافة بين الأنصار والمهاجرين، أو بين أهل البيت وقريش، أو هي شورى بين المسلمين يتولاها أكفؤهم وأفضلهم صلاحا، وما كادوا يستقر بهم وضعهم السياسي، حتى أصيبوا بنكبة مقتل الخليفة عمر وهو قائم يصلي بالناس، فعادوا ليختلفوا في تأويل تنفيذ حد القصاص في عبيد الله بن عمر الذي اقتص بنفسه ممن ظن أنهم تواطؤا على قتل أبيه دون الرجوع إلى الخليفة عثمان، وكل من الصحابة أدلى بدلوه في التأويل وكل كان له وجهة نظر مبررة، وكان الخليفة الجديد عثمان الذي أبطل حد القصاص وأصر عليه، قد برر تأويل عدم تنفيذ القصاص لبشاعة الجريمة وفداحة حجمها، بتطاول أحد الموالي على قتل خليفة المسلمين وهو بينهم، ثم حلت المصيبة الكبرى لتصيب الأمة في نحرها وتثقل عليها بكلكلها ووزرها، وهي حادثة مقتل الخليفة عثمان بتلك الطريقة البشعة.
ونتج عن ذلك التكديس من المشكلات وما صاحبها من تأويل، حدوث فتنة كبرى وقعت بين مسلمي الجيل الأول من كبار الصحابة، ممن يعتبرون قدوة نموذجية وأسوة لعامة المسلمين في كل زمان ومكان، أريقت فيها بحار من الدماء الزكية التي حاربت طقوس الوثنية وعادات الجاهلية ودحرتهما في معاقلهما الأولى، فكان أن فتحت تلك الفتنة اللعينة التي أيقظتها من مرقدها أطماع السياسة، أبواب جهنم على المسلمين ليصيبهم شرها ويلفحهم جحيمها، مما جعل هذه الفتنة فيما أتى من الزمن من بعدها تعطي التبرير الشرعي للمغامرين والطامحين، لاستعمال التأويل الفاسد بغية إباحة القتل والاقتتال، وفعل كل محظور من أجل بلوغ المقاصد السياسية.
ومنذ ذلك التاريخ الذي أبيحت فيه دماء الصفوة من كبار الصحابة بالتأويل الفاسد، وأزيلت فيه هيبتهم ووقارهم من نفوس الناس، فأخذوا يتطاولون عليهم بالسب والشتم والتقريع، أو بالخروج عليهم بالتمرد والعصيان والقتال، أو برميهم بالكفر والمروق والفسوق، أو بلعنهم في الخطب من على المنابر، فكان ذلك كله، قد شكل محنة كبرى أصابت المرجعية النموذجية العليا في صميم قدسيتها، وهي التي تحملت أعباء نشر الرسالة الهادية في ظروف قاسية، وشديدة المرارة، والذين آمنوا آخرة خوفا من ضرب السيوف، فما إن أتيح لهم ما أتيح تحولوا إلى معاول هدم لتحطيم صروح المجد التي بناها خير البشر بعد الأنبياء.
ولغرابة الزمن وعجائبه أن أصبح الذين جمعوا للنبي وأصحابه في وقت العسرة يريدون استئصال شأفتهم ومحوهم من الأرض، هم من آل إليهم أمر المسلمين، فصاروا يتخذون من مواقعهم التي تبوؤها بالتأويل الفاسد، والرشى السياسية والأعمال المريبة وغير المباحة شرعا، لينالوا من كبار الصفوة من الصحابة الكرام أمام أوباش الناس وسفلتهم، ليمكنوا لأنفسهم في الحكم بإزالة وقار الدين ومن تجشم مشقة تبليغه إلى الناس، وبذلك العمل الذي اتقنوا دراسته، استطاعوا أن يزيلوا هيبة كبار الصحابة من نفوس الكثير من الناس.
هذا ويمكن التنبيه إلى أن الصراع كان في بداية أمره بين الهاشميين والأمويين، وكان الهاشميون ممثلين في علي وبنيه، يحتجون على الأمويين بقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الأمويون ينافسون الهاشميين بقوتهم ونفوذهم ومكانتهم في الجاهلية والإسلام وبمصاهرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، أيضا، وقربهم منه ولاسيما بعد الفتح، ثم انتقل التنافس إلى ما بين الهاشميين أنفسهم، فوقع بين العلويين نسبة إلى علي كرم الله وجهه، والعباسيين نسبة إلى العباس رضي الله عنه، فصار الأمر إلى العباسيين بتدبير محكم جعلهم يستترون في الدعوة تحت اسم أهل البيت، فلما تغلبوا على الأمويين أخذوا الخلافة من العلويين قهرا، فتحول التنافس إلى بيت الهاشميين أنفسهم، وقد نكل العباسيون بأبناء علي تنكيلا مازال محفوظا في التاريخ، لم يفعله بنو أمية خصومهم التاريخيون.
تأول العباسيون أحقيتهم في الخلافة، بأنهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، والعم مقدم في الميراث وحاجب لأبناء العمومة والبنات من صلب الموروث، ولم ينظروا إلى السابقة كاعتبار في الميراث السياسي، لأن زمنها قد انقضى وصاحبها، وهو علي أخذ نصيبه من الخلافة، ولم يستطع المحافظة عليها لتنتقل إلى بنيه، وكان العباسيون يسخرون من دعوة أبناء علي إلى الخلافة في المناظرات المشحونة، وهم أبناء بنت محجوب عليها، ممن لا يجوز لهم طلب أمر عظيم كالخلافة، لأنها من حقوق الورثة الذكور.
ثم خرج التأويل من بابه السياسي إلى أن شمل حقولا مختلفة من ضروب الحياة، ومن خضم الصراعات السياسية، وما اكتنفها من غموض في فهم مشكلاتها، وما انبثق عنها من فهوم في التأويل، فنتج عن ذلك ظهور فرق مختلفة جعلها النبي صلى الله عليه وسلم، في ثلاثة وسبعين فرقة، منها اثنتان وسبعون فرقة كلها اتبعت سبل الضلال، ماعدا فرقة واحدة وهي الفرقة التي اتبعت طريق الحق والهدى، بالتأويل الصحيح، وليس باتباع الهوى في التأويل السياسي الذي جعله البعض من أصحاب المدرسة التبريرية، مطية للركوب على رقاب الناس بالتأويل الفاسد، مثلما استعملته الفئة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مقتل عمار بالبغي، ولو كان التبريريون على حق في التأويل لما أجازوا الخروج على الخلفاء العثمانيين الذين اجتمع عليهم عموم المسلمين، ولما خرجوا بالقتال على غيرهم ممن كانوا نوابا لهم في الأقاليم الإسلامية، بتواطؤ مع قوى خارجية معادية للخلافة، لأنها كانت تشكل وحدة سياسية أدخلت الرعب إلى نفوسهم لأكثر من أربعة قرون كاملة.
فلما آل الأمر إليهم اتخذوا من التأويل، منهجا لتكريس واقعهم السياسي، وتثبيت أركان ملكهم، فجعلوا يبحثون عن نصوص قيلت في سياقات تاريخية وسياسية معينة، لغرض تقوية الأمة بوحدتها السياسية والتعبوية، لأنها كانت ضعيفة وفي بداية تشكلها وظهورها إلى الحياة –بقوة- يقتضي التساهل مع بعض تجاوزات الحكام وخروقاتهم، لذلك اتخذوا التأويل كقاعدة “ويل للمصلين” لاستنباط أحكام يتخذونها مرجعا شرعيا لتثبيت دعائم حكمهم، فأصبحوا يحرمون على غيرهم ما أباحوه لأنفسهم من قبل.
يتبع