في ذكرى أبي فهر رحمه الله محمود شاكر.. آخر العمالقة /بقلم د. حسان الطيان
“ولو قد يسَّرَ الله لكل شاعر أو كاتب أو عالم صديقاً وفيًّا ينقله إلى الناس أحاديث وأخباراً وأعمالاً ـ كما يسَّر الله للرافعي ـ لما أضلّت العربية مجد أدبائها وعلمائها، ولما تفلّت من أدبها علم أسرار الأساليب، وعلم وجوه المعاني التي تعتلج في النفوس وترتكض في القلوب حتى يُؤذن لها أن تكون أدباً يُصطفى وعلماً يتوارث ”
محمود محمد شاكر
وماكان قيس هُلكه هُلك واحدٍ
ولكنّه بنيانُ قوم تهدّما
شهد عام 1997م رحيل رجالات علم وأئمة بيان وفكرٍ لا نظير لهم ولا خلف عنهم، بدءاً من شيخ نحاة العصر الأستاذ سعيد الأفغاني ( 18 فبراير/شباط 1997م ) وانتهاءً بشيخ أدباء العصر محمود محمد شاكر ( 7 أغسطس/آب/ 1997م ) ومروراً بشيخ شعراء العصر محمد مهدي الجواهري ( 29 يوليو/تموز 1997م ) وبشيخ مؤرخي العصر شاكر مصطفى (1أغسطس/آب 1997م).
حلف الزمان ليأتينَّ بمثلهم
حَنثتْ يمينك يا زمانُ فكفّر
لكنّ أبعدهم أثراً في حمل راية العربية ونصرتها والدفاع عنها، والذّود عن حماها، والتّصدي لمن ابتلاها، أبو فهر محمود محمد شاكر الذي تفرّد بالسؤدد بعد أن مضى عصر العمالقة، وغيّب الثرى كبار أئمة البيان أمثال الرافعي والعقاد والمازني والزيات وكرد علي وزكي مبارك وطه حسين، فكان أبو فهر الشاهد الوحيد على ذلك العصر، والبقية الباقية لثلّة نفحت العربية بروح نابضة حيّة بعد أن أتى عليها حينٌ من الدهر لم تعد شيئاً مذكوراً، ولكم كان يسوءُه هذا التفرّد فينشد بيت حارثة بنِ بدرٍ الغُداني:
خلتِ الدِّيار فسُدتُ غير مسوَّدٍ
ومن الشقاءِ تفرُّدي بالسُّؤدد
ولعلَّ خير عزاء لنا في فقده قول الآخر:
لقد عزّى ربيعةَ أن يوماً
عليها مثل يومك لن يعودا
لقد كان أبو فهر صاحب بيانٍ لا يجارى في دنيا الأدب، وأسلوب لا يبارى في دنيا الكتابة، تقرأ له فتسمو نفسك وتعلو مشاعرك حتى تكاد تلامس نجوم السماء، يأسرك أسلوبه الجزل، ويروعك تركيب جمله وعباراته، ويبهرك روعة استشهاده وحسن تأتِّيه، ويخلبك تخيُّره لمفرداته وانتقاؤه لكلماته:
في نظام من البلاغة ما شكْـ
ـكَ امرؤ أنّه نظام فريد
بل يصح فيها قول القائل:
هي السحر الحلال لمجتليه
ولم أرَ قبلها سحراً حلالا
وإذا وقع الاختيار منه على كلمة غريبة أو غير مألوفة، لم يدعها حتى يشرحها، فإذا ما شرحها استبان لك أنَّ كل مرادفاتها التي قد تخطر في البال لا يمكن أن تفي بمعناها، أو أن تُحلَّ محلّها في بنيان ذلك التركيب. استمع إليه يبيّن طبيعة ما سمّاه “مَيدان ما قبل المنهج “(وأمرٌ النازلين فيه أمر شديد الخطر، يحتاج إلى ضبط وتحرٍّ وحذر، ولا يغرُرك ما غَرِي به (أي أولع) بعض المتشدقين المموّهين: “أن القاعدة الأساسية في منهجِ ديكارت هي أن يتجرّد الباحث من كلِّ شيءٍ كان يعلمه من قبلُ، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن خلوًّا تامًّا مما قيل “[في الشعر الجاهلي: 1] فإنه شيء لا أصل له، ويكاد يكون، بهذه الصياغة، كذباً مصفى لا يشوبه ذرو من الصدق “والذّرو: دقيق التراب “، بل هو بهذه الصورة خارج عن طوق البشر (
نمط فرد في القراءة والنقد
وكان أبو فهر القارئ الفهم، والمتذوق الحصيف، والناقد المتبصّر لإبداعات العرب في شتى فنون الفكر والتاريخ والأدب ولاسيما الشعر.
فقد نشأ مشغوفاً بالشعر، منهوماً بالأدب، كلفاً بالتاريخ، وسلخ شبابه يعمل في العربية حتى أمكنته اللغة من قيادها وألقت إليه بأسرارها.
ولا أحسب أحداً أوتي في ملكة النقد الأدبي وتذوّق الكلام العربي عموماً والشعر العربي خصوصاً، واكتناه أسراره وتحسس خباياه ودفائنه ـبعد الإمام الجرجاني ـ مثلما أوتي أبو فهر، ومن شاء الوقوف على حقيقة ذلك فليقرأ كتابه: “أباطيل وأسمار “حيث قرأ أبو فهر شيئاً من شعر أبي العلاء ففهمه على وجهه، وهدى الناس إلى فهمه، وأماط عنه ما لحقه من أذى أدّى إليه سوء الفهم؛ وَلْيقرأ مقالاته التي جعل عنوانها: “نمط صعب ونمط مخيف“حيث تناول القصيدة اللامية المنسوبة إلى تأبّط شرًّا:
إنَّ بالشِّعبِ الذي دون سلعٍ
لقتيـلاً دمـه مـا يُـطَلُّ
في سبع مقالات طوال، دار فيها الكلام على كل مسائل التحقيق والعروض وعلاقة البحر العروضي باللغة والمعنى، وتذوق الشعر ونقده، ونقد السند والرجال، وتمحيص الكتب والروايات، وقضية الوحدة العضوية في القصيدة الجاهلية، وترجمة الشعر من لغة إلى لغة. بل ليقرأ ما كَتب عن سيد شعراء العربية “المتنبي”، حيث أعاد أبو فهر قراءة شعر أبي الطيّب ليخرج لنا عمود صورته من خلال شعره على نحو يغاير كل ما كتب الناس وألفوا عن المتنبي مذ كان يسعى بينهم حتى يومهم هذا.
واستمع إليه إن شئت يصف منهجه في القراءة وطريقته في التذوق:
“ويومئذ طويت كلَّ نفسي على عزيمة حذّاء ماضية: أن أبدأ وحيداً منفرداً، رحلة طويلة جدًّا، وبعيدة جدًّا، وشاقّة جدًّا، ومثيرةً جدًّا. بدأت بإعادة قراءة الشعر العربي كلّه، أو ما وقع تحت يدي منه يومئذ على الأصح، قراءة طويلة الأناة عند كلّ لفظ ومعنى، كأنّي أقلِّبُهما بعقلي وأروزهما “أي: أَزِنُهما مختبراً “بقلبي، وأجُسّهما جسًّا ببصري وببصيرتي، وكأني أريد أن أتحسسهما بيدي، وأستنشي “أي: أشَمّ” ما يفوح منهما بأنفي، وأسَّمّع دبيب الخفيّ فيهما بأذني، ثم أتذوقهما تذوُّقاً بعقلي وقلبي وبصيرتي وأناملي وأنفي وسمعي ولساني، كأن أطلب فيهما خبيئاً قد أخفاه الشاعر الماكر بفنه وبراعته، وأتدسَّسَ إلى دفين قد سقط من الشاعر عفواً أو سهواً تحت نظم كلماته ومعانيه دون قصد منه أو تعمّد أو إرادة ” أي كلام هذا وأيُّ بيان؟!!
قراءة لا تحقيق
وكان أبو فهر المحقق الثبت الذي لا يُشقّ له غبار، بل كان شيخ المحققين كما نعته كثير من علماء عصره، وما أجمل ما وصفه به الأستاذ عباس محمود عقاد حين قال: “هو على رأس المحققين لأنه أديب فنّان”.
أخرج لقراء التراث أسفاراً لا يقوى عليها إلا أمثاله من فحول التحقيق، من أشهرها “طبقات فحول الشعراء “لابن سلاّم في جزأين كبيرين، و”تفسير الطبري “الذي حقق منه ستة عشر جزءاً في كل منها علم غزير هو علم الأوائل الفحول، و”دلائل الإعجاز “للجرجاني في مجلد ضخم ألحق به “الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز وأسرار البلاغة “للجرجاني أيضاً، و”تهذيب الآثار “للطبري، و”جمهرة نسب قريش وأخبارها “للزبير بن بكّار.
وكان في التحقيق أمّة وحده، لم يرتض أن يوصف بالمحقّق وإنما أصرّ على أن يضع على أغلفة ما أخرجه من كتب التراث: “قرأه وشرحه “وكأن في هذه العبارة الحدَّ الفاصل بين طبيعة عمله وطبيعة عمل غيره من أعلام التحقيق. يقول مبيناً ذلك: “وكذلك نبذتُ أيضاً مُستنكفاً لفظ “حقق، وتحقيق، ومحقّق “وما يخرج منها نبذاً بعيداً دَبْرَ أُذني، لما فيه من التبجُّح والتعالي والادّعاء، واقتصرت على “قرأ “لأن عملي في كل كتاب لا يزيد على هذا، أن أقرأ الكتاب قراءة صحيحة، وأؤديه للناس بقراءة صحيحة، وكلُّ ما أعلّق به عليه فهو شرح لغامضه، أو دلالة للقارئ من بعدي على ما يعينه على فهم الكلام المقروء والاطمئنان إلى صحّة قراءته وصحّة معناه لا أكثر، ولا أقل، إن شاء الله “إنه يوجّه النص، ويبيّن معناه على نحو يجعل منه النص المحرّر المقروء الميسّر لطلاب المعرفة، ذلك لأنه يصدر عن قراءة ترفدها خبرة عالية موسوعية عميقة بطريقة الكتابة العربية ونمط منطقها وطبيعة أساليبها، وهو إذا مال بالقراءة ناحية معينة أتى شرحه مقارباً، وضبطه مقنعاً، وأفق فهمه واسعاً، فخلع على النص بعض تفسيره، وأصبح كأنّه صاحبه ومبدعه.
ولا غرو في ذلك فكلام الشيخ محمود شاكر ـ كما يقول الدكتور الطناحي ـ موصول بكلام الأوائل، منتزع منه، ودالٌّ عليه، ومكمّل له، وهو يسير في طريق الفحول من علماء أمتنا المتقدمين لا تخرِم مِشيته مِشية واحد منهم.
فن لا يغني عن فن
وكان أبو فهر العالم الموسوعي الذي نُشرت أمامه العربية كلُّها فراح يعُبُّ منها ويرفدنا بسيل من المعارف، ففي آثاره ما شئت من فقه باللغة، وبصرٍ بالعربية، وتذوّق للشعر، ومعرفة بالتفسير، ودراية بالحديث، ورواية للأخبار، وتتبُّع للآثار، وحفظ للشواهد، وتمثّل للتاريخ، وتحليل لوقائعه تحليلاً لا يرقى إليه نوابغ المختصين فيه. وإلى هذا كله ذهن لمّاح، وبصر حديد نافذ. وحسن مواتاة أوفى فيه على الغاية، وصار مضرب المثل.
ولا غرو فعلم الأمة عنده كلّ متكامل لا يستغني بعضه عن بعض، ولا يغني فن عن فن.
وكثيراً ما كان يُسأل عن مسائل أعيت أصحابها بحثاً عنها في المظانّ وتنقيراً في المصادر والمراجع فيستخرجها من غير مظانِّها.
تحسّس دبيب المكر الخفي
والأستاذ شاكر ـ فوق ذلك كلّه وقبل ذلك كله ـ قلب نابض بحبِّ أمته وتحقيق آمالها، وعقل واعٍ لتاريخها وثقافتها، وعينٌ راصدة لعالمها المتراحب، وحارس أمين يحرسُها من كلِّ خطر دقّ أو جلَّ، ومن كل عدو تخفّى أو تبدّى.
سخّر قلمه وعلمه للدفاع عن العربية لغة القرآن، يقول في مقدمة تحقيقه لدلائل الإعجاز: “وأسأله أن يُعينني على ما أقحم نفسي فيه من عمل أريد به وجهه سبحانه، ثم ما أضمره من خدمة هذه اللغة الشريفة النبيلة التي شرّفها الله وكرّمها بتنزيل كتابه بلسان عربي مبين.
ونذر نفسه لفضح ما دُسّ من دسائس، وما حيك من مؤامرات، وما دُبّر من مكر ضدّ هذه الأمة وتاريخها ورجالاتها ودينها ولغتها.
وكان شعاره في ذلك قول رسول الله: “ألا لا يمنعنَّ رجلاً هيبة الناس أن يقول بحقٍّ إذا علمه.
هاهو ذا يصف تحسُّسه لدبيب المكر الخفي يتسرّب من وراء سطور قرأها: “ولكني كنت امرأ نهماً يأخذه للكلام المكتوب سُعار، فتناولت الصحيفة وبدأت أقرأ سطراً بعد سطر، وكان الضحك يشقُّ عن حلقي، ويباعد بين فكي.. حتى فوجئت بشيء أمسك عليَّ ضحكي، وكظمه في بلعومي، شيء سمعت حسّ دبيبه من تحت الألفاظ، فجعلت استسمِعُه فإذا هو:
كشيش أفعى أجمعت لعضِّ
فهي تحُكُّ بعضَها ببعض
وفي كلامه هذا من لطافة الحسّ، وخفة الروح، ورحابة النفس ما لا يخفى على أحد، وهذا ديدنه وهجِّيراه في كلِّ ما كتب، فروح الفكاهة لا تكاد تخطئه، ولو كان يهجو ويشتُم وقد أعانه عليها استحضار للشواهد عجيب، وتمثّلٌ للأمثال غريب، وقلب واعٍ، وفؤاد ذكيّ لمّاح، وفيضٌ من عذوبة ماء النيل الذي حبا الله به مصر وأهل مصر. يقول بعد أن فضح أساليب المستشرقين وغطرستهم المتعالية معلّلاً غفلة أحدهم عن كتاب كان منه على طرف الثُّمـام: “ولكنَّ العلة في الحقيقة هي أن الأهواء الكامنة المتسترة تحت التعالم تارة، وتحت التظاهر بالإنصاف تارة أخرى، هي من الحدّة والشراسة بحيث تجعل العقل المستشرق يمشي في كتب لغة العرب، بصفة أبي النجم التي وصف بها نفسه عندما يخرج من بيت صديقه زياد ثملاً يترنح:
أخرج من عند زيادٍ كالخَرفْ
تخُطُّ رجلايَ بخطّ مختلف
كأنّـمـا تُكتَّبــانِ لامَ الــفْ.
ويقول بعد أن قرأ مقالة المستشرق مرجليوث عن الشكل في الشعر الجاهلي في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية: “ثم بعد أيام لقيتُ أحمد تيمور باشا، وأعدتُ إليه المجلة، فسألني: ماذا رأيت؟ قلتُ: رأيت أعجميًّا بارداً شديد البرودة، لا يستحي كعادته! فابتسم وتلألأت عيناه، فقلتُ له: أنا بلا شك أعرف من الإنجليزية فوق ما يعرفه هذا الأعجم من العربية أضعافاً مضاعفة، بل فوق ما يمكن أن يعرفه منها إلى أن يبلغ أرذلَ العمر، وأستطيع أن أتلعّب بنشأة الشعر الإنجليزي منذ شوسر إلى يومنا هذا تلعُّباً هو أفضل في العقل من كل ما يدخل في طاقته أن يكتبه عن الشعر العربي، ولكن ليس عندي من وقاحة التهجّم وصفاقة الوجه، ما يسوّل لي أن أخط حرفاً واحداً عن نشأة الشعر الإنجليزي. ولكن صروف الدهر هي التي ترفعُ أقواماً وتخفض آخرين، قد أنزلت بنا وبلغتنا وبأدبنا ما يبيح لمثل هذا المسكين وأشباهه من المستشرقين أن يتكلموا في شعرنا وأن يجدوا فينا من يستمع إليهم، وأن يجدوا أيضاً من يختارهم أعضاء في بعض مجامع اللغة العربية !! ! “.
وأبو فهر ـ كما هو بيّن ـ من أعلم الناس بمواطن السخرية في الكلام، كيف تكون ؟ ومتى تكون ؟ ومع من تكون ؟ وقلّ من الكتّاب من يجيدها أو يتقنها، لأنها كما يقول: “من أشقِّ ضروب الكتابة، وليس يغني فيها أن يشتري المشتهي قلماً بقرش، وورقاً بقرشين، فإذا هو كاتب ساخر.. “.
****
تربية الرجال
وكان أبو فهر ـ أحسن الله جزاءه ـ أستاذاً إماماً تخرّج به رجال صاروا ملء السمع والبصر علماً وفضلاً، ورواية ودراية، في شتى صنوف المعرفة اللغوية والأدبية والتاريخية والنقدية.
يبني الرجال وغيره يبني القرى
شتّان بين قرًى وبين رجالِ
فقد خلص إليه طلاب العلم وروّاد المعرفة ينهلون من معينه، ويهتدون بسديد رأيه، ويسترشدون بطويل خبرته ونفاذ بصره وبصيرته، يفزعون إليه في مشكلاتهم، ويفيدون من خزائن كتبه ونفائس مخطوطاته ونوادر مقتنياته. وكان شيخنا النفاخ واحداً منهم. وهو الذي يقول في تقديم ما صنعه من ديوان ابن الدمينة: “ولا يسعني في ختام هذه الكلمة إلا أن أتقدم بأعمق الشكر إلى الأخ الكبير العلاَّمة الراوية المحقق الأستاذ محمود محمد شاكر الذي طالما أفدت من علمه ومكتبته ـ لا زالت معمورة ـ وطالما فزعت إليه فيما اعترضني من مشكلات، فكان لي من علمه الجمّ وبصره النافذ خيرَ معين “.
وهكذا غدا بيته مثابة للعلماء والباحثين، وقبلة لعشّاق العربية ودارسيها، أمُّوه من كل مكان على اختلاف أوطانهم وأعمارهم واختصاصاتهم وميولهم وانتماءاتهم ومشاربهم، فانتفعوا بعلمه، وصار لكثير منهم به نباهة وشأن وذكر.
فمن سورية أستاذنا العلامة أحمد راتب النفاخ رحمه الله، وهو الذي عرّفنا فضل الأستاذ شاكر وسَبْقه، ودلَّنا على آثاره، وأتاح لنا الاطلاع على بعض ما لم يكن مطبوعاً منها في كتاب.
ومنهم أستاذنا الكبير الدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق حفظه الله وعافاه، والأستاذ الدكتور إحسان النص نائب رئيس المجمع، والأستاذ الدكتور مازن المبارك والأخ الدكتور عز الدين البدوي النجار. وغيرهم كثير. ومن السعودية علاّمة الجزيرة الأستاذ حمد الجاسر “وهو صنو الأستاذ وقرينه”، والأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، والأستاذ الدكتور عبد الله العسيلان. وغيرهم كثير.
ومن الكويت الأستاذ الدكتور يعقوب يوسف الغنيم وزير التربية والتعليم الأسبق وشقيقه الأستاذ الدكتور عبد الله يوسف الغنيم وزير التربية الحالي، والأستاذ الدكتور عبد الله محارب، والأستاذ جمعة محمد الياسين، والأستاذ جاسم المطوّع.. وغيرهم كثير. ومن الأردن الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد وزير التعليم العالي، والأستاذ الدكتور محمد حسن عواد وغيرهما. ومن العراق الأستاذ الدكتور عبد الله الجبوري، والأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي والدكتور نوري القيسي والدكتور بشار عواد.. وغيرهم كثير. ومن فلسطين الأستاذ الدكتور إحسان عباس وغيره. ومن المغرب الأستاذ الدكتور محمد بن شريفة وغيره. ومن تونس الأستاذ الدكتور إبراهيم شبوح وغيره.
ومن أرض الكنانة خلق لا يحصون، أذكر منهم الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم، والأستاذ الوزير فتحي رضوان، والأستاذ الوزير الدكتور حسن الباقوري، والشاعر حسن كامل الصيرفي، والأستاذ الدكتور حسين نصار، والروائي المعروف الأستاذ يحيى حقي، والشاعر محمود حسن إسماعيل، والأستاذ الدكتور محمود الطناحي، والأستاذ العروضي الحساني حسن عبدالله، والأستاذ الأديب عبد الحميد البسيوني، والأستاذ الدكتور محمود الربيعي.. وغيرهم وغيرهم كثير كثير.
وكان أبو فهر ـأكرم الله مثواه ـ حفيًّا بأصحابه وإخوانه، وفيًّا لعهدهم برًّا بهم، ألوفاً لصحبتهم، كالذي قال أبو الطيّب:
خُلقتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصِّبا
لفارقتُ شيبي موجعَ القلب باكيا
يتبدى ذلك جليًّا في حاله ومقاله، وحلّه وترحاله، ويعرف ذلك عنه كلُّ من قرأ له عن بعد أو من زاره فعرفه من كثب وقرب، أو دنا منه ووصل سببه بأسبابه فجالسه وخالطه، وآكله وسامره وأكرِم به من جليس، وأعظِمْ به من عشير.
ولعل خير شاهد على برّه بشيوخه ما كان من موقفه لدى وفاة أستاذه الرافعي، فقد بلغ به الأمر أن أوقف معركته المشهورة مع الدكتور طه حسين، يقول في مقدمة الجزء الثاني من كتابه المتنبي: “ثم لم أثبت شيئاً مما كتب عن كتابي هذا مما فيه ثناء عليه لقلة انتفاع هذا الجيل به، إلا كلمةً واحدةً أثبتها، لا لما فيها من ثناء، بل لأنّ صاحبها كان أستاذي وصديقي، ولأن وفاته كانت أحدَ الأسباب الداعية إلى ترك الاستمرار في نقد كتاب الدكتور طه، رحم الله الرافعي، وغفر له، ولنا جميعاً ”
وهو في هذه المقدمة نفسها يضرب أروع الأمثلة في نسبة الفضل إلى أهله، والثناء على أصحابه، وإن كانوا من طلاّبه:
“… وأما التراجم الثلاث الأخر فقد بيّنتُ أمرها في مقدمة الطبعة السابقة، وكان الفضل كل الفضل في الوقوف على هذه التراجم الثلاث الأخيرة مصروفاً إلى أخي وصديقي الأستاذ الجليل أحمد راتب النفاخ عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، نقل بعضها قديماً بخطّه، وصوّر لي بعضها. وشكري له لا يفي بقليل كرمه، فكيف بالكثير الذي غمرني به آسياً ومُواسياً في كل ضرّاء لحقتني، أو آتياً ومواتياً في كل سرّاء زادها بهجة إسراعه إليَّ وهو أنا، وأنا هو، أطال الله بقاءه ونفع به ”
أسمعتم شيخاً يشكر تلميذه بمثل هذا الضرب من التبجيل والتكريم والحفاوة والتعظيم؟! إنه كرم في النفس وسموٌّ في البيان يفوق كل وصف أو تقدير، بل لقد وصل به الأمر إلى أن سمّاه ـأي الأستاذ النفاخ ـ أستاذه في موضع آخر من الكتاب نفسه حيث يقول: “وذات يوم دخل عليّ يتهلَّل وجهه، وتنير أساريره صديقي وتلميذي، وأستاذي فيما بعد، الأستاذ أحمد راتب النفاخ، وهو اليوم عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، ومدّ يده بورقات مكتوبة بخطه.. “.
فلسفته في إتقان العمل
وكان الإتقان ديدنه في الحياة، حين يكتب، وحين يحقق، وحين يبدع، وحين ينقل إلينا إبداع المبدعين، بل حين يُزاول أيّ عمل من الأعمال، حتى صار كما قال في مقدمة “القوس العذراء“: “وإذا كلُّ عمل يفصم عنه متقناً، وكأنّه لم يجهد في إتقانه، وإذا هو مشرف فيه على الغاية، وكأنه مسلوب كلّ تدبير ومشيئة، ولكنه لا يفصم عنه حين يفصم، إلا مطويًّا على حُشاشة من سرّ نفسه وحياته، موسوماً بلوعة مُتضرِّمة على صبوة فنيت في عشرته ومعاناته”.
وما قوسُه العذراء هذه سوى عصارةِ فلسفته في إتقانه العمل:
ما هي قوس في يَدَيْ نابلٍ
وإنّما ألواح سحر نزلْ
وذلك لأنه استلهمها من عمل رجل أتقن عمله حتى أوفى به على الغاية، إنه عامرٌ أخو الخُضر الذي جاء وصفه في قصيدة الشماخ رجلاً يتعيش بكدِّ يديه، صابرَ الفاقةَ عامين، ثم شمّر عن ساعد الجدِّ فتخيّر قوساً من أطيب الشجر وأحسنه، وتوفّر عليها، فأحسن قطعها وصنعها وتمظيعها [ أي: وضعها في الشمس لتشرب ماء لحائها ] وتثقيفها وتقويمها وذوقها مختبراً شدّتها ولينها، حتى إذا استوت في يديه آيةً في الإبداع:
إذا أنبَضَ الرامون عنها ترنّمت
ترنّمَ ثكلى أوجعتها الجنائز
وافى بها أهل الموسم، فأغراه مقتنص خبير رائز للنفائس بما بهره، وكاد يُنسيه ما عانى من صنعها وكابد في إتقانها، ولكنه تماسك وجعل يناجي نفسه متردّداً بين بؤس مخلٍّ وثراءٍ مذلٍّ، بين حنين تخالطه الفاقة والفقر وأنين دونه النُّعمى والغنى:
يرى نِعمةً لبست نِقَمةً
ونوراً تدجّى وسحراً بطل
وقطع عليه ترددَه أصواتٌ أحاطت به من كل ناحية تستحثه على البيع فباعها، وما إن شعر بفقدها حتى بكاها “وفي الصّدر حزّاز من الوجد حامز”.
وصف الشماخ هذا القوّاس وقوسه فأجاد الوصف، ولا غرو فهو أحد الشعراء الوصّافين، أُنشِدَ الوليد بنُ عبد الملك شيئاً من شعره في صفة حُمُرِ الوحش فقال: “ما أوصفه لها ! إنّي لأحسَب أحدَ أبويه كان حماراً ”
وقرأ أبو فهر ما جاء في هذا الوصف فافتُتن به، أعجب بالواصف كما أعجب بالموصوف، وفيه يقول: “لم أعرفه، ولكن حدثني عنه رجل مثْلُهُ، علمُهُ البيان، ذاك فطرته في يديه، وهذا فطرتُه في اللسان ” وكان أن عمد إلى قصيدة الشمّاخ هذه ذاتِ الثلاثة والعشرين بيتاً فاستلهم منها بيانها الحافل، وتذوّقها غائصاً في أغوار دلالة ألفاظها وتراكيبها ونظمها، فأثار بهذا التذوق دفائن نظمها ولفظها، واستدرج خباياها المتحجبة من مكامنها، وأماط اللثام عن أخفى أسرارها المكتّمة وأغمض سرائرها المغيّبة، فبعثها من مرقدها ضمن قصيدة تزيد على ثلاثمئة بيت، كلُّ ما فيها نبيثة مستخرجة من بيان أبيات الشمّاخ ومن رِكاز نظمها وكلماتها.
وكان أبو فهر يتوخّى في كل ما يعمل وجه ربه، ويرجو أن يكون عمله خالصاً له لا تشوبه شائبة من أمر الدنيا، أحسبه كذلك ـوعلى هذا مدار عمله كله ـ ولا أزكي على الله أحداً، يتبدّى ذلك جليًّا في كل ما كتب وحقق وأخرج للناس، ولعل خير ما يجلو هذا المعنى كلمته في مستهل تحقيقه لتفسير الطبري:
“وبعد فقد بذلت جهدي، وتحرّيت الصواب ما استطعت، وأردت أن أجعل نشر هذا الكتاب الإمام في التفسير، زُلفى إلى الله خالصة. ولكن كيف يخلص في زماننا عمل من شائبة تشوبه ! فأسأل الله أن يتقبّل مني ما أخلصت فيه، وأن يغفر لي ما خالَطَهُ من أمر هذه الدنيا، وأن يتغمّدني برحمته يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم..”.
خاتمة
وبعد، فإنّ أبا فهر أعظم من أن يحيط بفضله مقال، أو يحصي مناقبَه ويُعدّد مزاياه كتاب أو خطاب، وكم في القلب من معنى أجدني عاجزاً عن التعبير عنه، وكم في النفس من شعور لم يستطع قلمي أن يترجمه كلاماً يكتب أو بياناً يُؤثر. إنها مشاعر كل محبّ للعربية وأهل العربية، وما أحسن ما عبّر أبو فهر عن مثل هذا بقوله:
“وقد وجدت في نفسي شيئاً طلبت الإبانة عنه فلا أدري أأحسنت أم أسأت، أبلغت أم قصرت، وما كل ما تحسُّه واضحاً في نفسك تستطيع أن تحسن الإبانة عنه، ورحم الله إمامنا الشافعي فقد قال عندما سئل عن مسألة: إني لأجد بيانَها في قلبي ولكن ليس ينطلق بها لساني”.
وأنت يا أبا فهر، كأنّي بأبي العلاء المعري ما يعني إلاّك في قوله:
من النّاس من لفظُه لؤلؤٌ
يبادِره اللقطُ إذ يُلفظُ
ويعني شانئيك من دعاة الحداثة والتجديد وتمزيق التركيب العربي وكسر رقبة الشعر العربي بقوله:
وبعضُهُمُ قولُه كالحصا
يقال فيُلغى ولا يُحفظُ
ستبقى آثارك الرائعة شاهدَ صدق على علمك وعلوّ بيانك، وحجّةَ حقٍّ على إيمانك وجهادك، وأرجو أن تكون زُلفى لك عند ربك تنال بها رضاه، وتبلغ بها غايتك وسؤلك.
رحمك الله الرحمة الواسعة وأجزل لك الأجر والمثوبة.