من حرية البلد إلى حرية الجسد/ أ. د. ليلى محمد بلخير
(جميلة بوحيرد) رمز بطولي للمرأة الجزائرية خاصة والمرأة العربية عامة، تحضر في رواية فوضى الحواس لأحلام مستغانمي “في هذا المقطع أمام مقهى (الميلك بار) الذي أجتازه بخوف بالغ، أتذكر فجأة (جميلة بوحيرد) التي أثناء الثورة جاءت يوما إلى هذا المقهى نفسه متنكرة في ثياب أوروبية، وقد طلبت شيئا من النادل، قبل أن تغادر المقهى تاركة تحت الطاولة حقيبة يدها الملأى بالمتفجرات، تلك التي اهتزت لدويها فرنسا، مكتشفة وهي التي كانت تطالب برفع الحجاب عن المرأة الجزائرية، أن هذا السلاح أصبح يستعمل ضدها، أن امرأة في زي عصري قد تخفي فدائية. بعد أربعين سنة، ها أنا الوريثة الشرعية لجميلة بوحيرد أمر بهذا المقهى نفسه، متنكرة في ثياب التقوى بعد أن اكتشفت النساء هذه المرة أيضا أن ثياب التقوى قد تخفي عاشقة، تخبئ تحت عباءتها جسدا مفخخا بالشهوة بخوفها نفسه، بتحديها وإصرارها نفسه، أمشي هذا الشارع بعد أن أصبح الحب هو أكبر عملية فدائية تقوم بها امرأة جزائرية” (فوضى الحواس ص171).
ونسأل لماذا تقابل أحلام مستغانمي بين زمن حرب التحرير، وزمن العشرية السوداء؟ لماذا تستحضر الاسم البطولي (جميلة بوحيرد) التي رفعت الحجاب وتنكرت في لباس بنات فرنسا لأداء مهمة فدائية، بينما تتنكر بطلتها بعد أربعين سنة بالجلباب فقط لتمارس الرذيلة؟ موظفة قدرتها على تطويع اللغة، ورسم صورة امرأة متهورة تنساق وراء شهوة الجسد، والمفارقة أنها تعتز بذلك وتراه بطولة تماما مثل بطولة (جميلة بوحيرد) المجاهدة، وهل صارت هذه البطلة الأسطورة قدوة للمرأة في الشجاعة ليس من أجل الوطن، بل في تحدي المجتمع وضرب هويته وأصوله، بممارسة الخيانة الزوجية وتصويرها كأنها بطولة ونبالة.
وهنا نكون أمام امرأتين: الأولى تاريخية في زمن الثورة التحريرية، والثانية معاصرة في زمن العشرية الدموية، الأولى (جميلة بوحيرد)، تنكرت في لباس غربي بوعي وطني من أجل حرية البلد، والثانية بطلة رواية جعلتها الكاتبة تتنكر في لباس العفة وصفته ساخرة بـ(لباس التقوى) يدفعها الهوى من أجل ممارسة الرذيلة باسم حرية الجسد، ممتثلة للوعي الغربي.
نكون أمام مقابلة تجمع (السفور/الحجاب) و(الحرب/الحب)، (السفور/تحرير البلد) و(الحجاب/تحرير الجسد)، (امرأة في زي عصري/فدائية) و(امرأة في ثياب التقوى/خائنة)، (وعي وطني/وعي غربي)، تقدم الكاتبة قضية اللباس وعلاقته بالجسد، باعتبار الأمر مجرد شكل ليس إلا، حيث يكون السلوك عكس اللباس، ومن ثم لا يدل لباس العفة على عفة صاحبته، وهي فكرة وإن كانت تجد نماذجها في الواقع فليست قاعدة، لأن الشكل يعكس بالضرورة هوية صاحبه، أما في حال تنكر (جميلة بوحيرد)، فهو استثناء فرضه منطق الحرب والواجب الوطني.
وتزول هذه السخرية بمجرد العودة إلى قيم المجتمع، إذ أن ما تتنكر لأجله بطلة الرواية خيانة للزوج مهما كانت تبريرات ذلك، وتشويه لهوية المجتمع الجزائري، وتشريع للخيانة، بينما ما قامت به (بوحيرد) وفاء للوطن، من هنا تتقابل (الخيانة والوفاء)، تغفل عنها الكاتبة، وتحرف انتباه القارئ بممارسة الإبهار اللغوي في تحسين القبيح، وقلب المنكر معروفا، والتعبير عن فكر يعارض قيم المجتمع تحت شعار (حرية الإبداع) لتكريس (حرية الجسد)، بينما الواجب أن يكون الشعار قوله تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53] .