الاهتمام بالسنة النبوية الشريفة / د. يوسف جمعة سلامة
أخرج الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ ، لَنْ تَضِلُّوا مَا َمَسَكْتُمْ بهِمَا :كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ نَبيِّهِ)( 1).
إن السنةَ النبويَة الشريفة – على صاحبها أفضلُ الصلاة والسلام-هي الأصل الثاني من أصول الأحكام الشرعية، فهي والقرآنُ الكريمُ متلازمانِ، لا ينفك أحدُهما عن الآخرِ، فقد جاءت السنةُ النبويةُ المطهرةُ شارحةً للقرآنِ الكريم ومبينةً له: تُفَصِّلُ مُجْملَهُ، وَتُوَضِّحُ مُشْكلَهُ، وَتُقَيِّدُ مُطْلَقَه، وَتُخَصِّصُ عَامَّه، وقد تأتي بحكمٍ زائدٍ عن القرآنِ الكريمِ، وهي في ذلك كلّه واجبةُ الاتباعِ كالقرآنِ الكريم.
* قال تعالى:{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }(2).
* وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(3).
* وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }(4).
إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الكثيرة، التي تدلُّ دلالةً واضحةً على أن السنَّةَ المطهرةَ تُعَدُّ المصدرَ الثانيَ من مصادرِ التشريعِ الإسلامي، وهي مبينةٌ لكتابِ الله -عز وجل-، مفسرةٌ مخصصةٌ له.
وتابعت الأحاديثُ النبويةُ الآياتِ القرآنيةَ في بيان مكانةِ السنة، وضرورةِ اتباعها ووجوبِ طاعتها، كما حثت على تبليغِ السنةِ ونشرِها، ومن هذه الأحاديثِ ما يلي:
* قولُه – صلى الله عليه وسلم –:”أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ! أَلا لا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ، وَلا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ، وَلا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا ، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ”(5).
* وقولُه – صلى الله عليه وسلم –: ” نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءاً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بفَقِيهٍ”(6).
* كما أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عمر- رضي الله عنه- قال: “كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِن الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بنِ زَيدٍ -وَهِيَ مِن عَوَالِي المَدِينَةِ- وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَنزِلُ يَومًا وَأَنزِلُ يَومًا، فَإِذَا نَزَلتُ جِئتُهُ بخَبَرِ ذَلِكَ اليَومِ مِن الوَحيِ وَغَيرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثلَ ذَلِكَ(7).
وباستقراء تلكَ الآياتِ وهذه الأحاديثِ يتضح لنا مدى ما تتمتع به السنة النبوية المطهرة من أهميةٍ في الإسلامِ، وما تحتله من مكانة في تشريعِ الأحكامِ .
لذا فقد اعتنى العلماءُ المسلمون عبر التاريخ بالسنةِ النبويةِ المطهرةِ، فقاموا بجمعِ السنةِ وحفظها وتبليغها للناس، والدفاع عن حياضها، حيث انقطع لهذا العمل الجليل أئمة أفذاذ، وعلماء مخلصون
قاموا بجمع السنة وتدوينها ، ووضعوا لها أَدَقَّ الموازين وأضبطها؛ لحمايتها ومعرفة الدخيل الزائف منها ، حتى تركوا لنا الأحاديث الصحيحة في موسوعات ضخمة، فجزاهم الله خير الجزاء.
ومع قيام الأدلة على حجية ومكانة السنة النبوية في الشريعة الإسلامية، إلا أن بعض الحاقدين –قديماً وحديثاً- سَدَّّدوا إليها سِهَامَهُم للطعن والتشكيك فيها،كما أثاروا الشبهات لِمَرَضٍ في صدورهم، وخَلَلٍ في تفكيرهم، وشَطَطٍ في عقيدتهم، وما حالهم إلا كحال من نَوَّه القرآن الكريم عنه (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(8)، وما شأنهم ومحاولاتهم العبثية إلا كَشَأْنِ من قال عنه الشاعر:
كَنَاطِحٍ صخرةً يوماً لِيُوهِنََها فلم يَضِرْها وَأَوْهى قرنَهُ الوَعِلُ
وجوب محبة الرسول – صلى الله عليه وسلم –
من الآيات الدالة على وجوب محبة الرسول – صلى الله عليه وسلم – قوله تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رحيمٌ }(9)، يقول العلامة ابن كثير
–رحمه الله -:[هذه الآية الكريمة حاكمة على كلّ من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، أنه قال : “من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد “، ولهذا قال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم ، وهو أعظم من الأول ، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ، إنما الشأن أن تُحَبَّ، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبعُونِي يُحْببْكُمُ
اللّهُ}] (10)، ومن المعلوم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جعل محبة الله ورسوله هي أصل الإيمان، كما جاء في الحديث الشريف: (ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ )(11).
وجوب السير على هديه- صلى الله عليه وسلم –
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: ( وقد ذُكرت طاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن، منها قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ “، وقوله عز وجل: ” فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا”، وقال- صلى الله عليه وسلم- : ” لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ “، فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول – صلى الله عليه وسلم- من الطاعة له، ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضى بحكمه، والتسليم له، واتباعه والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، وردِّ ما يُتنازع فيه إليه، وغير ذلك من الحقوق، وأخبر أن طاعته طاعته فقال: ” مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ”، ومبايعته مبايعته، فقال: “إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ”، وقرن بين اسمه واسمه في المحبة فقال: “أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ”، وفي الأذى فقال: “إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ “، وفي الطاعة والمعصية فقال: ” وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ”، “وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ “، وفي الرضا فقال: ” وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ “، فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي)(12).
الطرق العلمية لخدمة السنة النبوية
لذلك فإن الواجب على العلماء أن تتضافر جهودهم وتجتمع كلمتهم على خدمة السنة النبوية الشريفة بكل الطرق وكافة الوسائل العلمية المتاحة، وبذل كلّ ما في وسعهم من أجل تربية النفوس وبناء العقول و إصلاح القلوب، اقتداء بالرسول محمد – صلى الله عليه وسلم -، وذلك من خلال: إعداد جيل ناشئ على حبِّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وإحياء سنته، وربط الشباب بالسنة النبوية وتشجيعهم على العناية بها وحفظها وتطبيقها، وإنشاء كليات ومعاهد علمية ومراكز متخصصة في دراسة السنة النبوية الشريفة، وإنشاء مواقع متخصصة في السنة النبوية الشريفة على الشبكة العنكبوتية بعدة لغات، وذلك تحت إشراف أهل العلم والتخصص، و إقامة المسابقات في حفظ الأحاديث النبوية، وإعادة نشر المؤلفات المعنية بالسنة النبوية وسيرة النبي– صلى الله عليه وسلم- ليقتدي بها شباب الأمة الإسلامية، كما في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (13)، وقد أجمعت الأمة على أن الردَّ إلي الله يعني الردَّ إلي كتابه، وأن الردَّ إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته يعني الردَّ إلي سنته(14).
وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الهوامش :
1- أخرجه مالك 2- سورة النحل، الآية (44) 3 سورة النساء، الآية (59) 4- سورة الحشر، الآية (7)
5- أخرجه أبو داود 6- أخرجه أبو داود 7- أخرجه البخاري 8- سورة الصف، الآية (8)
9- سورة آل عمران، الآية (31) 10- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/477 11- أخرجه البخاري
12- مجموع فتاوى ابن تيمية 1/67-68 13 – سورة النساء، الآية (59) 14- الموافقات للشاطبي 4/321