يخربون بيوتهم بأيديهم وأيد المفسدين/ بقلم: التهامي مجوري
إنَّ أسوأ ما تصاب به المجتمعات، ليس الفقر والأزمات والمصاعب في الحياة، وإنمَّا هو الأنانيات وغياب الثقة وسوء الظن؛ لأنَّ الفقر ليس مشكلة في ذاته أو عيبا، فها هي الكثير من الشعوب الفقيرة في العالم، لا تملك من دنيا النَّاس الكثير، ومع ذلك هي في موقع الريادة والقيادة، لأنَّها انطلقت من أن هذا الفقر المادي من الأزمات والمصاعب التي ينبغي التغلب عليها، فأحدثت العجب العجاب بنهضاتها؛ قلَّبت موازين الفهم، وجعلت من الفقير فقير الفكر والعلم والدب، وليس فقير الخبز والقمح والشعير..، ذلك أنَّ الأزمات والمصاعب من سنن الوجود، ومن علامات النمُّو التفكير في التغلب عليها وليس التباكي والتشاكي من وجودها وطروئها على المجتمعات. أما الأنانيات وغياب الثقة وسوء الظَّن بين النَّاس، فلا شيء من ورائها إلاّ الخراب والدمار؛ إنَّها تنال من أسمى قيم الإنسان المحافظة على تكتله وتفاعله وتمازجه.
وما تابعناه خلال الأيام القليلة الماضية من جدل ناتج –في ظاهره- عن واقع اقتصادي متردي، جدل عرضه الإعلاميون على أنَّه صراع فئوي بين أطراف متنازعة فيما بينها على أمور تبدو شخصية وفئوية وحزبية وتصفية حسابات. وذلك في تقديرنا من أعراض التمَّزق والتشتت الذي تعاني منه مؤسسات الدولة والمجتمع في بلادنا، ومن أسبابه الرئيسية الأنانية التي استبدت بالبعض فأضحوا من المستعدين للتضحية بكلّ شيء من أجل مصالحهم الخاصة، ومن أجل القضاء على خصومهم، الذين هم شركاء لهم بالقوة وبالفعل، ومن أسبابه أيضا حبل الثقة المفقود بين فئات المجتمع، فلا أحد يثق في أحد، فلا السلطة تثق في المعارضة، ولا المعارضة تثق في السلطة ولا الشعب فيهما معا، وما يقال في هذه الأطراف الظاهرة يقال في الأطراف المستترة المتنازعة داخل التشكيلة الواحدة، في السلطة وفي التنظيمات السياسية والجمعوية والنقابات، وتجتمع هذه الرذائل بفروعها وأصولها في سوء الظن.. وإذا كان “الظن اكذب الحديث” كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ما بالك إذا كان هذا الظن سيئا؟.
ولم تقف هذه الظاهرة عند حد معين من المسؤولين والمهتمين بالشأن العام والقائمين على شؤون البلاد الثقافية والسياسية والاقتصادية أو على مستوى معين من المؤسسات الرسمية والشعبية، وإنمَّا انتقلت إلى فئات عريضة من المجتمع؛ بل انتقل هذا الفيروس إلى داخل الأسرة الواحد. والمجتمع إذا لم ينتبه إلى خطورة هذا الأمر على الفرد والجماعة معا، فإن مساوئ المجتمع تصبح مفتوحة على كلّ الاحتمالات؛ لأنّه فقد أول مقوم ألاّ وهو الوحدة.
إنَّ المجتمع كما تعرفه العلوم الإنسانية، هو مجموعة من النَّاس يجتمعون على رقعة من الأرض تربط بينهم مصالح وأهداف؛ والنّاظم لهذه العلاقات والمصالح، هي العقود والعهود والتوافقات، ولهذه العقود والعهود والتوافقات، أشكالا أخلاقية ودينية والتزامات سياسية واجتماعية، تعاونية وتراحمية وتضامنية وتناصرية…إلخ، وأهمها وأظهرها الشعور بانتماء الفرد للجماعة بكل أبعاده والتزاماته، والثقة في هذه الجماعة وحسن الظن بها في كل ما تعرض من اجتهادات.
وعندما تتغلَّب في مجتمع ما الأنانيات الفردية والفئوية والحزبية على روح الجماعة، فإنّ كل فئة لا توجب على نفسها ألا تفكر إلاّ في مصالحها الفردية والفئوية والحزبية “أنا ومن ورائي الطوفان” كما يقال، وكما هو معروف في قصصنا الشعبي أن جحا قيل له النَّار في حيكم قال “تخطى” دارنا، فقيل له إنها في داركم قال “تخطى راسي”.
فالأنانية سمة مميزة للطفولة؛ فيرى الطفل الأم أمه وحده، والأب أبوه وحده واللعبة لعبته، وهي مبررة بكونه يعجز عن تصور الشريك له فيما يحيط به من أشياء، أما أنانية الكبار فردية وجماعية، فهي انحراف عن الجادة؛ لأنَّها تدرك أنَّ لها شركاء فيما تملك وما لا تمكن مما يحيط بها من أشياء، وتتعمد ألاّ يكون هذا الذي يحيط بها لغيرها، هذا ناهيك عن أن الأنانية نقض لأهم أركان المجتمع وكلّ جماعة بشرية، وهو التعاقد بموجبات تفرضها الحياة الجماعية، وتوجيهات نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- تحث على هذا المعنى السامي “من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد” (رواه الترمذي). وهذا التوجيه النَّبوي يبدو وكأنَّ التزام الجماعة من الفضائل التي تدخل الجنَّة فحسب، ولكن في الحقيقة أنّه توجيه لالتزام يرتقي به في كلّ شيء؛ لأنّ التزام الجماعة التزام بنظام عام، واحتماء به، واستعانة بجهده المتراكم، ولا أدلَّ على ذلك من أن كلّ تقصير من أفراد المجتمع ينعكس على الجميع بالسبب الذي تسبب والذي لم يتسبب (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال 25].
قد تختفي الأنانيات في أطر معينة كما تختفي في النظم القبلية والفئوية والحزبية وينطفئ بريقها، ولكن هذا الاختفاء وانطفاء البريق لا يعني أنهّا اختفت حقيقة من نفوس النّاس في المجتمع، إنمّا تبقى بمقادير ويختفي مفعولها بقدر ما يوجد من الثقة بين النّاس أفراداً وجماعات ومن حسن الظّن بين أفراد المجتمع وفئاته وجماعاته.
لأنَّ فقدان الثقة حائل دام دون التعاون والتناصر والتفاعل، وسوء الظن يعمق فقدان الثقة بكلّ ما أوتي من قوة.
لا شك أنّ طبيعة الإنسان وخصائصه الفردية التي جبل عليها، تدعوه إلى توظيف تلك الخصائص في النّظر إلى النّاس وأفعالهم، وإلى القيم وانعكاساتها على الواقع، ولكن العدل يقتضي أن لا ينظر النّاس إلى بعضهم البعض وفق ما يشتهون وتصوره لهم أوهامهم، وإنمّا ينظرون إليهم انطلاقاً من حسن الظّن بهم والثقة فيهم… صحيح أنَّ حسن الظّن والثقة تجلبهما الأخلاق الفاضلة وقيم الإنسان الرفيعة وهي مفقودة في الكثير من ساحات مجتمعنا بكلّ أسف، ولكن مكتوب علينا أن نعمل على وجود قدر يحفظ لنا كياننا الاجتماعي والسياسي، حتى لا نكون من الذين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيد المفسدين.