عن لساننا الأندلسي الذي لا نعلم عادةً أنه أندلسي/ فوزي سعد الله
توجد صيغة كلامية غير معروفة في المشرق العربي، لكنها شائعة جدا في المنطقة المغاربية، لا سيَّما في شمال القُطريْن الجزائري والمغربي، وهي “شْحَالْ” التي تَخْتَصِرُ الجُمْلَة “آشْ حَالْ” التي تُعدُّ بدورها صيغة موجَزة لـ: “أيّ شيء حال”، ومعناها “كيف الحال” أو “كَمْ”، حسب السياق الذي تَرِدُ فيه هذه الصيغة الاستفهامية.
وفيما تَغِيبُ هذه الجُمْلَة عن كلام المشرق، فإن الراهب الإسباني بيدرو دي آلكالا (Pedro de Al cala) يفاجأنا في قاموسه حول لغة أهل غرناطة العامِّيَّة الصادر في بداية القرن 16م بتأكيده شُيوعَها في الوسط الاجتماعي الغرناطي في عهده.
وكتب هذا الرَّاهب الكاثوليكي “آش حال” بالحروف اللاتينية بهذا الشكل في قاموسه: axhál، مع العلم أن حرف “X” يُنطَق “ش” في مثل هذا السياق في اللغة الإسبانية. وعند شرح مدلولها، قال بيدرو دي آلكالا إنها تعني بالإٍسبانية “Cuanto”، أيْ: كَمْ…
ويليام مارصي يبدو مقتنعا أن “شْحال” أو “آشحال” من مظاهر التأثير اللغوي الأندلسي/الموريسكي في المنطقة المغاربية.
ونضيف من جهتنا أن “آشْحَالْ” عبارةٌ شائعة في الغناء العربي – الأندلسي في الجزائر، وفي الأغاني المنبثقة عنها كتلك المعروفة بـ: “العْرُوبِيَّاتْ”، وذلك بالمعنييْن سابقيْ الذِّكْر: “كيف حال…؟ أو كم؟” .
سبق أن تَعَرَّضْنَا لِخُبْز الـ: بُويَا” (Poya) في مدينة شرشال القريبة من العاصمة الجزائرية وهو الخبز/الأَجْر الذي يتقاضاه الفَرَّان لقاءَ طَهْيِهِ الخبزَ العائلي الذي تُرْسِلُه له النساء من البيوت بعد عَجْنِه. فبعد إخراجه من الفرن، يأخذ خبزة الـ: “بويا” الصغيرة ويبيعها في مَحلِّه ليقبض أجرَها ويدع باقي الخبز لأهله.
لكن لماذا وكيف دخل هذا الاسم الغريب الذي لا يبدو عربيا ولا أمازيغيا على لسان المنطقة؟
في الحقيقة، “بويا” أصلُها كلمة Poya المُستَخدَمة في اللغتيْن القشتالية والبلنسية في إسبانيا. فهي Poya في القشتالية وتُكتَب Puia في لغة بلنسية، وقد كانت مُتدَاولة في الكلام العربي في الأندلس حسب تأكيدات ويليام مارصي نقلا عن بيدرو دي آلكالا.
مارصي يقول إن في عهده، في مطلع القرن 20م، لاحظ وجود كلمة “بويا” في شرشال وفق صيغتها البلنسية وفي مليانة بصيغة بوية Buia. وأوضح أن هذه العادة “…في طريق الزوال مع زوال الدَّفْع للفَرَّان عينيًّا” ، وهو ما حدث فعلا خلال العقود الأخيرة حيث لم تعد هذه العبارة معروفة إلا عند المُسِنِّين لدى العائلات الحَضَرِيَّة العريقة في هذه المدينة.
وبما أننا نعلم أن شرشال أعاد بعثَها وإعمارها الموريسكيون في بداية الحقبة العثمانية من تاريخ الجزائر، لا سيما أهالي غرناطة وبعض البَلَنْسِيِّين، فإنه يحقُّ افتراض قدوم تقاليد عَجْنِ خبز الـ: “البُويَا” إلى هذه المدينة مع حُلول اللاجئين الموريسكيين بها.
كلمةُ “الطّْرِيحَة” الشائعة في مدينة الجزائر والتي تُعتبَر استعارةً من طَرْحِ الخبز في الفرْن عند الفَرَّان بمعنى ضرب بِخِفَّة، حسب ويليام مارصي، كانت معروفةً في الأندلس. وحتى اللُّغة القشتالية القديمة كانت تستعملها هكذا: Tarea، ومازالت مُستخدَمة إلى اليوم، على الأقل في إقليم الأندلس جنوب إسبانيا.
أما “الطِّيفُور”، بمعنى المائدة المُزَيَّنة التي يُتناوَل عليها الشاي وتوضَع فيها هدايا العَرُوس، فإنه تراثٌ ثقافي مُشترَك بين تلمسان وندرومة ومدينة الجزائر ومدن مغربية كفاس. وذَكَرَه المستشرق دوزي وجودَه في الأندلس بالمعنى ذاته. لكنه قد يصبح عبارة عن شِبْه صَحن معدني في قسنطينة ومدينة الجزائر أيضا .
صدفةٌ مثيرة للاستفهام أيضا تلك المتعلقة بجُمْلة “عْلَى بِيدْ مَا”، بمعنى رَيْثَمَا، الشَّائعة في مدينة الجزائر بشكل شبه حصري والتي نعرف كذلك أن أهل غرناطة على الأقل استخدموها في عامِّيتهم بفضل ذِكْرِها من طرف بيدرو دي آلكالا في قاموسه . وهي جديرة بالاهتمام من طرف اللُّغَويين لتحديد تاريخِ تطوُّرِها وجغرافيتِها وحركيتها بين المغرب الإسلامي والأندلس.
وبالاعتماد على بيدرو دي آلكالا، يمكن أيضا معرفة أن فِعْلَ “فَجَّخْ”، ومعناه جَرَحَ بالرَّشْق بالحجارة، المعروف في مدينة الجزائر، أو “فَرْتْشَخْ” في صِيَغٍ أخرى خارج العاصمة الجزائرية، وحتى “فَرْتَخْ” أو “فَرْطَخْ” في تلمسان، كلمة وُجدتْ في الأندلس، في غرناطة على الأقل، في نهاية القرن 15م وبداية القرن 16م. وكان أهالي هذه الحاضرة الأندلسية يقولون: “فَرْدَخْ” أو “فَرْضَخْ”… .
وفي مدينة الجزائر، ما زلنا لا نقول “مِنْ وَرَائِكْ” أو “مَنْ وْرَاكْ” في صيغتها المكيَّفة مع اللسان العامِّي، بل نقول”مُورَاكْ” كأهل غرناطة والأندلس، حسب شهادة بيدرو دي آلكالا ومارصي، وكَسُكَّان طنجة المتأثرين بالثقافة الأندلسية،… ومع أهل الديار الأندلسية، تشترك كلٌّ من أرياف جيجل ومناطق أندلسية الطابع الثقافي في المغرب في استخدام فِعل “يْغَانَنْ” ومصدره “المْغَانَّة”، أيْ العناد، التي تتحوَّل في مرتفعات جرجرة إلى “تَغَنَّانْتْ” في نسختها الأمازيغية …
على كلٍّ، الأمثلة كثيرة عن هذا التماثل اللساني بين الأندلس والمنطقة المغاربية الشمالية بشكل خاص والذي تَشَكَّلَ خلال قرون من التواصل والتبادل ثم انصهر في بوتقة ثقافية/حضارية مُوَحَّدة في العهديْن المرابطي والمُوَحِّدي.
ولا شك أن الاعتماد على اللسانيات من منظور جغرافي/تاريخي قد يساعد على فَكِّ الكثير من الرموز المتعلقة بالبُعد الأندلسي/الموريسكي الإيبيري للمجتمع الجزائري ولكافة المجتمعات التي احتضنت المهاجرين واللاجئين من “الفردوس المفقود” قبل قرون إلى دول المغرب الإسلامي وإفريقيا جنوب الصحراء والبلدان العربية في المشرق والحجاز وحتى إلى أوروبا و”العالم الجديد”.
ولا شك أن عملا كبيرا ينتظر الباحثين المتخصصين لإلقاء كل الضوء على التأثير الأندلسي/الموريسكي في مختلف البلاد العربية والإفريقية وفي البلدان المتوسطية، سواء أتعلق الأمر بالعادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية/الثقافية أو حتى باللغة واللهجات، فضلا عن الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية…”.
الصورة: لوحة قديمة لغرناطة في القرن 16م أي بعد سقوط الحُكم الإسلامي. لاحظوا ارتداء النساء للحايك الأبيض كنسائنا في الجزائر…
مقال طريف جميل، ولمزيد من الاستقصاء يمكن الرجول إلى “أمثال العوامّ” للزجالي وأضرابه. أما التأثير الأندلسي فيتجاوز اللغة إلى العوائد واللباس والعمران وغيره…
وافر المودة.