الوحدة الإسلامية..فريضة شرعية وضرورة وطنية / د. يوسف جمعة سلامة
يقول الله تعالي في كتابه الكريم:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
لقد أمرَ الله عزَّ وجلَّ المسلمين في هذه الآية الكريمة أن يكونوا جميعاً متمسكين بكتابه الكريم وبتعاليم دينه وأحكامه في وحدة مترابطة تجمعهم؛ لأن الوحدة سبب قوتهم وغلبتهم وعزتهم، ونهاهم عن التمزق والفرقة لأنها تكون سبب ضعفهم وقهرهم وذلهم، وَذَكَّرتهم الآية الكريمة بنعمة الله عليهم أن هداهم إلى الإسلام الذي وَحَّد شملهم، وجمع كلمتهم، فأصبحوا إخواناً متحابين بعد أن كانوا في الجاهلية أعداء متناحرين يضرب بعضهم رقاب بعض، فعليكم إذن أيها المسلمون أن تجتمعوا على طاعة الله، وأن تكونوا يداً واحدة في وحدة مترابطة على كلمة سواء؛ كي تهتدوا بها إلى سعادة الدارين، وإذا حِدْتُم عن هذا الطريق السويّ الذي دعاكم إليه الله سبحانه وتعالى وأمركم بالالتزام به، فلن تجنوا إلا الضعف والهوان والذلّ والخسران .
وحدة المسلمين فريضة شرعية
إن الوحدة فريضة شرعية وضرورة وطينة؛ لذلك نجد أن النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة تأمر العرب والمسلمين بوجوب جمع الشمل ورصّ الصفوف ووحدة الكلمة، فاتحاد الكلمة أمرٌ جاء به الإسلام ورغَّب فيه وحثّ عليه، والأمة الإسلامية أمة عظيمة خَصَّها الله سبحانه وتعالي بميزتين عظيمتين، هما:
الخيرية: كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}.
والوسطية: كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
كما خصَّ الله الأمة العربية بخصائص عديدة، حيث جعل المساجد الثلاثة التي لا تُشَدّ الرحال إلا إليها في أرضها، كما أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم؛ لذلك يجب على العرب والمسلمين بصفة عامة والفلسطينيين بصفة خاصة أن يجمعوا شملهم ويوحدوا كلمتهم، وهذا ما نجده في قوله سبحانه وتعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
ومن المعلوم أن وحدة المسلمين وتضامنهم عمل يمثل قطب الرَّحى، وطوق النجاة لسفينة المسلمين، فالمسلمون لن ترتفع لهم راية ولن يستقيم لهم أمرٌ ما لم يكونوا متضامنين مجتمعين على كلمة واحدة، فقد جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمة ممزقة مبعثرة فجمعها ووحَّد كلمتها، ثم جمع العرب على اختلاف أوطانهم وجعلهم أمة واحدة بعد أن كانت الحروب مستعرة بينهم وصهرهم جميعاً في بوتقة الإسلام، وجمع بين أبي بكر القرشي الأبيض وبلال الحبشي الأسود، وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، جعلهم إخوة متحابين بعد أن كانوا أعداء متخاصمين، وأزال ما بين الأوس والخزرج من خلاف، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وأصبح المسلمون بفضل الله كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، والله سبحانه وتعالى يرشدنا إلى ذلك بقوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}، وبقوله سبحانه وتعالى أيضًا:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
إن الله سبحانه وتعالى يُبَغّض إلينا أن نختلف؛ لأن الاختلاف أول الوهن وباب الفشل والضياع، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، بل إنه لَيُحَذّرنا من أن نسير على نهج المتفرقين، أو أن نقتدي بهم؛ لأنه أعدَّ لهم أسوأ العقاب عنده؛ جزاءَ تفرقهم كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ولو ألقينا نظرة سريعة على أحوال العرب قبل الإسلام، نجد أنهم كانوا متنازعين متناحرين مختلفين، كما كانوا مُوزعي الولاء بين الفرس والروم عن طريق الغساسنة والمناذرة، حيث كان زعيمهم يأتي إلى سيده ليقول له: عبدك النعمان ماثلٌ بين يديك، كما دَبَّت فيهم روح الأنانية، وأصبحوا شيعاً وأحزاباً، هكذا كانت أمة العرب – قبل مجيء الإسلام – تعيش في ضلال مبين، شِرْكٌ في العقيدة، وفوضى في المجتمع، وحياة تضطرب في ظلمات بعضها فوق بعض، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}، لكنْ بعد أن أكرمهم الله سبحانه وتعالى بالإسلام أصبحوا بنعمة الله إخوانا، فقد قضى الإسلام على خلافاتهم وانتزع الغِلَّ من صدورهم وأصبحوا بفضل الله جسداً واحداً.
لقد حصل مرة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن نشأت بين بعض الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- مشادَّة كلاميَّة سُمِعَ منها ارتفاع الصوت، فأخرجت أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- يدها من الحجرة الطاهرة، وأخذت تقول لهم: إن نبيكم يكره التفرُّقَ، ثم تلت عليهم قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، وتعني أن الخصام أساس الفرقة، والفرقة أساس البلاء.
وقد ذكر أستاذنا الشيخ/ محمد الغزالي-رحمه الله- في كتابه خُلق المسلم، أن المصلين اختلفوا في صلاة التراويح هل هي ثماني ركعات أم عشرون ركعة؟ فقال بعضهم: بأنها ثماني ركعات، وقال آخرون: بأنها عشرون ركعة. وتعصَّب كلّ فريق لرأيه، وكادت أن تحدث فتنه، ثم اتفق الجميع على أن يستفتوا عالماً في هذه القضية فسألوه عن رأيه في الأمر، فنظر الشيخ بذكائه فعرف ما في نفوسهم، وهو أن كل طرف يريد كلمة منه، فقال الشيخ: الرأي أن يُغْلَق المسجد بعد صلاة العشاء(الفريضة) فلا تُصَلَّى فيه تراويح البته، قالوا: ولماذا أيها الشيخ؟! قال: لأن صلاة التراويح نافلة (سُنّة)، ووحدة المسلمين فريضة، فلا بارك الله في سُنَّة هدمت فريضة.
إن واقع المسلمين اليوم – وللأسف الشديد- يُنبئ عن قدرٍ كبير من الاختلاف والتباعد والتطاحن، حول قضايا ربما تكون مفهومة أحياناً وغير مفهومة في كثير من الأحيان، وكما قال الشاعر:
بحثتُ عن الأديانِ في الأرضِ كلّها وجبتُ بلادَ اللهِ غرباً ومشرقاً
فلمْ أرَ كالإسلامِ أَدْعَى لأُلْفَـــــةٍ ولا مِثْـــــلَ أهليـــهِ أشدّ تفرقا
الوحدة..الوحدة..يا أبناء الأمة
إن الأمة الإسلامية – في هذه الأيام من تاريخها – تمرّ بظروف صعبة قاسية، فقد تكالب عليها أعداؤها، وأحاطوا بها من كل جانب، وصدقت فيهم نبوءة الرسول – صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه ثوبان – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال 🙁 يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ).
فالحديث النبوي الشريف يشير إلى مؤامرة دولية، تتداعى فيها الأمم على المسلمين الذين أصبحوا لقمة سائغة لكل جائع أو طامع، وهذا ما صَدَّقه الواقع الذي نعيشه؛ لذلك فإن الأمة الإسلامية في أَمَسِّ الحاجة الآن إلى الرجوع إلى الله والعودة إليه، وتطبيق أوامره وتعاليمه، واتخاذ الخطوات العملية الجادة لتنفيذ الوحدة الإسلامية قولاً وعملاً ومنهجاً وسلوكاً.
لقد كانت أمتنا الإسلامية خير الأمم، لأنها كانت أمة متآخية كل التآخي، متعاونة على البرّ والتقوى، متحدة في أهدافها وغاياتها، معتصمة بحبل ربها، قلوبها متآلفة، وصدورها متصافية، وكلمتها مجتمعة، التراحم قائم، والتسامح موجود، وحب الخير يملأ كل قلب ونفس.
وبذلك تبوأت أمتنا أعلى مراتب العزّ والشرف، وكانت لها السيادة والقيادة على شعوب الأرض قاطبة، فأقامت موازين القسط والعدالة والمساواة بين الناس، ونشرت في ربوع الدنيا رسالة الإسلام، ومبادئ القرآن؛ لذا علينا أن نتمسك بالوحدة لنعود إلى مَا كُنّا عليه من عزٍّ ومجدٍ عبر تاريخنا الإسلامي المجيد.
اللهم اجمع شملنا، ووحد كلمتنا، وألف بين قلوبنا، يا رب العالمين
وصلّى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.