“وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ” أو الحراك الإصلاحي المضاد/ أ. د. عبد الرزاق قسوم
ومن العجائب والعجائب جمة، بل إن من علامات قيام الساعة، أن يبعث الله من وراء البحار، ومن فرنسا بالذات، حركة إصلاحية مضادة، تشرف عليها أقلام مشبوهة ومحادة، تطلق على نفسها ” جمعية العلماء المسلمين الأصلية”.
ومرحبا بجمعية العلماء المسلمين الأصلية حتى ولو بعثت من وراء البحار، ولكننا استبشرنا خيرا أن يبعث الله موتى نفوس، فينعشهم بحياة، وأن يوقظ ضمائر فينعتهم بسمات، والموتى يبعثهم الله.
وما راعنا هو أن أصحاب هذه النفوس المريضة، والضمائر المتبلدة العريضة، قد رسمت لها مهمة قذرة، هي تشويه صورة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأصلية حقا، والحكم على إمام الجزائر ابن باديس بالخيانة.
ألا ساء ما يحكمون!
كبرت كلمة تخرج من أقلامهم، فبعد عقود عديدة، شهدت فيها فرنسا بالذات على ألسنة ساستها ومفكريها ومخبريها أن ابن باديس هو العدو الأول لفرنسا. كما أخضع فكر عبد الحميد بن باديس، وأدبيات جمعية العلماء، للتحليل العلمي النزيه والتقييم الأكاديمي النبيه، ليجمع الكل على ابن باديس هو الزعيم الروحي للثورة الجزائرية.
ولكن شذ عن هذه القاعدة شرذمة من الذين يعانون من تلبيس إبليس، فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾[ سورة الشعراء؛ الآية: 221/ 222/223].
فماذا يريد هؤلاء الأفاكون بإفكهم؟ هل يريدون إعادة التاريخ إلى الوراء، وإثبات أن الإرث الباديسي كله، يجب أن يلقى به في مزبلة التاريخ؟
وأين نضع الشهادات الفعلية الميدانية لابن باديس، وكل علماء جمعية العلماء؟
أليس ابن باديس هو القائل “وإذا تعذرت الحقوق إلا بالاندماج، فإننا نفضل العيش متأخرين منحطين، لأننا أحياء على كل حال، أما الاندماج فهو ميتة وفناء لا قيام بعده”[ الشهاب سنة 1938….].
وهو القائل أيضا “إن هذه الأمة الإسلامية الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة”[ انظر الشهاب أفريل 1936].
وفي رده على المتجنس م ـ الزناتي، يقول الشيخ عبد الحميد ” قد تقرر من مختلف النصوص الشرعية، والأحكام الفقهية، أن المتجنس بالجنسية الأجنبية (الفرنسية) يعد مرتدا عن الإسلام، لقبوله طوعا، واختيارا، الخروج عن بعض أحكام القرآن”[ مجلة الشهاب].
هذا دون إغفال أناشيد ابن باديس الخالدة:
اشهدي يا سماء واكتبن يا وجود
إننا للحمى سنكون الجنود
إلى أن يقول:
فيرى جيلنا خافقات البنود
ويُرى نجمنا للعلا في الصعود
هكذا هكذا، هكذا سنعود
ونشيده الخالد:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجا له رام المحال من الطلب
إلى أن يقول:
واهزز نفوس الجامدين فربما حيى الخشب
واقلع جذور الخائنين فمنهم كل العطب
وأذق نفوس الظالمين السمّ يمزج بالرهب
هذا لكم عهدي به حتى أوسد في التُّرَب
أفبعد هذا كله، وبعد ثمانين سنة من التاريخ أو يزيد، تطلع على الناس زعانفة، يشككون في تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ووطنية عبد الحميد بن باديس؟
وقد تفطن الإمام محمد البشير الإبراهيمي لأمثال هذه الكيانات البشرية، السائرة كالحشرات على غير هدى، نفطن الإمام الإبراهيمي فكتب في جريدة البصائر في فاتح أوت 1947 ما يلي:
ولجمعية العلماء أضداد في أعمالها، يقصرون جهودهم على التنقيص منها، والزراية بها، وخصوم في مواقعها، يلوون ألسنتهم بانتقادها، واتهامها، ويشيعون عليها قالة “السوء والعيب”.
إلى أن يقول:
” من أعداء الجمعية الاستعمار وأنصاره وصنائعه، يعادونها، لأنها وقفت بينهم وبين الأمة سدا، وفضحت سرائرهم في ما يبيتون للإسلام والعربية من كيد..”[ البصائرـ 1ـ8ـ 1997].
فإذا كان دعاة الحراك الإصلاحي المضاد اليوم، تحركهم غيرة وطنية على جمعية العلماء، وهم ضحايا جهل، فها نحن نبصرهم بالحقائق، ونقول لهم تعالوا إلى نبع التاريخ الصافي، لتأخذوا من أساطينه المنصفين، الحقائق الدامغة، والحجج الرادعة، أما إن كنتم تحملون كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، ذهنية “الكناس” الذي يبحث عن الزبالة، ولا تلتفت عينه أبدا إلى ما هو نظيف، فإنكم تسلمون بأنكم مرضى نفوس، ومعتلي ضمائر، ندعو لكم بالشفاء والرحمة.
أما الحقيقة التي لا يُماري فيها إلا ذو عقل سخيف، فهي أن جمعية العلماء منذ قيادة ابن باديس، وهي تجاهد على مختلف الجبهات السياسية، والثقافية، والإعلامية، والإقتصادية، وغيرها، لإثبات وجود المواطن الجزائري، بمختلف أبعاده الحضارية، ولتأكيد استقلاليته، وتعميق هويته وإنيته.
وكفى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فخرا أنها أخرجت أمة من العدم الاستعماري إلى الوجود الحضاري، وأنها كانت ولا تزال تتصدى لأنصار البدع الخرافية التي تجلب للجزائري عوامل الإتكالية، والإتباعية، كما تتصدى الجمعية لدعاة التغريب الثقافي والتخريب الخرافي، والاستئصال الجزافي.
لقد صار الجهل بالتاريخ مستحيلا في عصر العلم، والتكنولوجيا، ولا عذر اليوم لأي أحد في الوقوع في مثل هذا الجهل ” وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ“.
وسنعود لاحقا بكثير من التفصيل إلى هذه القضية ذات الذنب الطويل.