علماء وبطولة خالدة/كمال ابوسنة
العلماء العاملون هم بجدارة واستحقاق ورثة الأنبياء والمرسلين، والأنبياء والمرسلون لم يتركوا درهما ولا دينارا، ولم يخلفوا وراءهم أموالا طائلة، ولا مناصب زائلة، بل وَرَّثُوا من بعدهم العلم النافع، والخلق الناصع، إذ يخشى اللهَ من عباده العلماءُ، وإن المخلوقات لتستغفر لهم في البر والبحر والسماء، ولكن- لعمر الحق – ليس كل العلماء سواء، فمنهم ظالم لنفسه ولغيره ولأمته، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله!
لقد أنجبت الجزائر المسلمة واحتضنت عبر العصور علماء ربانيين كانوا- ومازالوا – زينة لها، خلَّدوا ذكرهم – رغم محاولات التعتيم والتجهيل – بمواقفهم الجسورة التي سطروها على صفحات التاريخ برشحهم المعطر بمسك الإخلاص، وبدموعهم التي سالت من مآقيهم فَرَقًا على هذه الأمة ومستقبلها، وبدمائهم الغالية الزكية التي أرخسوها في سبيل الله، رَدًّا لطمعِ محتلٍّ غاشم، ودَفْعًا لضررِ عدوانٍ ظالم، ولسان حالهم يقول بكل شجاعة ما قاله عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته:
بأنـَّا نُورِدُ الراياتِ بيضاً
ونُصدِرُهنَّ حُمرًا قد روينا
ومن هذا الصنف مِنَ العلماء العاملين المجاهدين الثائرين – على كثرتهم في جزائرنا الولود في كل العهود – أذكر للذكرى والاعتبار رجلين عظيمين هما الإمام سيدي بومدين شعيب (492-573هـ)، والإمام الشهيد العربي التبسي (1895 –1957) رحمهما الله رحمة واسعة.
أما الأول وهو الإمام سيدي بومدين شعيب – رحمه الله – الولي الرباني الصالح، والمجاهد العالم الناصح، فالكثير من الجزائريين- حتى الذين يزورون قبره للتبرك- يجهلون أن باب المغاربة، وحارة المغاربة تحديدا، في فلسطين، ترك بها أملاكا كثيرة، وأراض شاسعة، وقفا لله رب العالمين، وحوَّلها ورثته رسميا إلى وقف في 29 رمضان سنة 720هـ الموافق لـ3 نوفمبر 1320م، وسُجِّل ذلك في المحكمة الشرعية تحت رقم 194 صفحة رقم 365 لفائدة الحجاج من المغرب العربي، ويتكوَّن الوقف من 15 ألف هكتار في قرية عين كرم، وأراضيها التابعة لها، ومبانٍ في مدينة القدس مجاورة للمسجد الشريف، وحائط البراق…
وإلى جانب بذله أمواله وأطيانه لوجه الله لا طلبا لجزاء أو شكور، فقد شارك بنفسه- ليكون فعَّالا لا قوَّالا – مع القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي في معاركه ضد الصليبيين الذين احتلوا بيت المقدس حيث قُطعَت ذراعه في إحدى معارك تحرير الأقصى، فدفنها في القدس الشريف منتشيا غير آسف، وعاد إلى الجزائر بعد جهاد طويل ضد الصليبيين، وتجارة مع الله رابحة في فلسطين، وتوفي بتلمسان ودُفن بها.
وثاني الاثنين الإمام الشهيد العربي التبسي- رحمه الله -الذي جاهد بعلمه الواسع، وعمله النافع، وجاد بنفسه ونفيسه من أجل الإسلام والجزائر، ولم تفتر عزيمته الجهادية الصلبة بسبب ترغيب يسيل له لعاب الطامع هوانا، أو بسبب ترهيب يصير منه قلب الشجاع جبانا، ولو أراد لأكل من فوقه، ومن تحت رجليه، وما مسه من نَصَب أو لغوب، ولكنه اختار الآخرة مستقرا ومقاما على الأولى الفانية، وكأني به يُردد مع الإمام الشافعي-رحمه الله- قوله:
همتي هـمة الملـوك ونفسـي
نفس حر ترى المذلة كفـرا
روى الرائد أحمد الزمولي عن صديقه المجاهد إبراهيم جوادي البوسعادي –كما نقل الأستاذ الدكتور أحمد عيساوي – أنه قال:” لقد كنت أنا وصديقي القبايلي في الفرقة العسكرية التي اقتحمت منزل الشيخ العربي ليلا في حي بلكور بقيادة الدموي ريمون “لاقايارد” وكنت أنا وصديقي هذا في تعداد فرقة الجيش الذين راقبوا العملية، واستمروا يشاهدون ما حدث للشيخ العربي, الذي بقي نزيلا في سجن ثكنة القبعات الحمر بالجزائر العاصمة طيلة ثلاثة أيام من غير طعام ولا شراب ولا لباس, وقد تكفل بتعذيبه الجنود السنغاليون، والشيخ بين أيديهم صامت صابر محتسب لا يتكلم إلى أن نفذ صبر”لاقايارد”.
وبعد عدة أيام من التعذيب جاء يوم الشهادة حيث أعدت للشيخ بقرة (برميل) كبيرة مليئة بزيت السيارات والشاحنات العسكرية والإسفلت الأسود، وأوقدت النيران من تحتها إلى درجة الغليان والجنود السنغاليون يقومون بتعذيبه دونما رحمة, وهو صابر محتسب..ثم طلب منهم “لاقايارد” حمل الشيخ العربي, وكان عاري الجسد فحمله أربعة من الجنود السنغاليين, وأوثقوا يديه ورجليه، ثم رفعوه فوق البقرة المتأججة، وطلبوا منه الاعتراف وقبول التفاوض وتهدئة الثوار والشعب، والشيخ يردد بصمت وهدوء كلمة الشهادة: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، ثم وضع من قديمه في البقرة المتأججة، فأغمي عليه, وكانت آخر كلمة تلفظ بها- رحمه الله- لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم أنزل شيئا فشيئا إلى أن أدخل بكامله فيها، فاحترق وتبخر وتلاش”.]أنظر محاضرته المنشورة في كتاب (أشغال الملتقى الوطني الثالث للفكر الإصلاحي في الجزائر، طبع الجمعية الثقافية الشيخ العربي التبسي) ص 61 [.
رحم الله الإمام سيدي بومدين شعيب المجاهد لنفسه، وعدو الله، وعدو المسلمين، الذي لم يعزله تصوفه الصحيح ولم يمنعه عن الاهتمام بأمر المسلمين وقضاياهم المصيرية، ورحم الله الإمام الشهيد العربي التبسي الذي جمع بين فصاحة البيان، وبلاغة السنان، ولم يحد عن طريق الجهاد والتضحية من أجل عودة الجزائر عربية مسلمة حرَّة، لا تزاحمها في أرضها ضرَّة.