قضايا و آراء

عُلَمَاؤُنَا يُكَرَّمُونَ أحيَاءً/ أ .د. قندوز ماحي

سرَتْ في بلاد المغرب عموما، وفي الجزائر خصوصا؛ عادة نكران أهلِ العلمِ وعدم الاحتفاء بهم، لا في حياتِهم ولا بعدَ موتِهم، ومَرَدُّ ذلك لعقلية تجذَّرت، وعادةٍ استقرَّت في أبناء هذه البقعة من العالم العربي والإسلامي، مع أننَّا لا نعدِمُ رجالاً ولا يُعْوِزُنا العلم ولا الحضارة والنُّبُوغُ في شتى مجالات المعرفة والعلوم، وقديما قال الشيخ أبو عبد الله السنوسي التلمساني:”وليكن اعتنَاؤُكَ يا أخي بمن تأَخَّر من الصَّالحين، وخُصُوصاً من أهل بلدك حلُولا بالسُّكْنَى والدَّفَنِ أكثرَ من اعتِنَائِك بمن تَقَدَّم منهم؛ وذلك لأوجه:…الرابع: أنَّ فيه تخلُّصاً ممَّا عليه أهل الزمان من القدح بمن عاصرَهُم من الصَّالحينَ، أو عاصَرَهُم من بعض ذُرِّيَتِهِم، والقرَابَة إليهم، وهذا خُلُقٌ ذميم جدًّا، قد نَالَ منه أهلُ المغرب، خصوصا أهلَ بلدِنَا حظًّا أوفرَ مما نال غيرَهم؛ ولهذا لا يجدُ أكثرُنا اعتنَاءً بمشايخنَا، ولا يُحْسِنُ الأدب معهم، بل يَسْتَحْيِي كثيرٌ منَّا أن يَنْتَسِبَ بالتَّلْمَذَة لمن كان خامِلاً، ويكون جُلُّ انْتِفَاعِه بذلك الخَامِل، فيَعْدِلُ عن الانتسابِ إليه إلى منْ هُوَ مشهُورٌ عندَ الظَّلَمَة، وربما نَسَبَ بعضُ من لا خلاَق له العدَاوَةَ والسَبَّ والأذيَّة لمن سبَقَتْ شيخُوخَتُه عليه، ولا يُبَالِي وذلك مذْمُومٌ جدا، وإن لم يكن شيخُه من الصَّالحينَ، وهو الهلاك دنيا وأخرى؛ ويرْحَمُ الله المشارقَةَ ما أكثرَ اعتنائَهُم بمشايخهِم، وبالصَّالحينَ منهم خصُوصاً”. [المديوني،  محمد بن محمد ابن مريم، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان: ص6-7].

وكذلك عبر عنه الأستاذ عبد الوهاب بن منصور -رحمه الله – أحد الشيوخ البارزين في جمعية العلماء المسلمين بتلمسان وندرومة – بقوله:”وعفا الله عن أهل المغرب الأوسطِ، فإنِّي ما أظُنُّ على وجه البسيطة أمَّةً أتْعَسَ منهم في آدابها حَظًّا، أو أعثرَ منهم في تاريخها جِدا، فقد أهْمَلُوا أئِمتهم وأعلامَهُم، وزَهدُوا في أدبهم وحضارتهم، ونَسَوْا عن عمد عُظَمَائَهُم وكُبَرَاءَهم، ونَفَضُوا اليَدَ مِن مَشَاهِيرِ عصُورِهِم، ومَسَاعِيرِ حُرُوبِهم، ولم يَذْكُرُوا بالفَخَارِ والإكْبَارِ عُلَمَاءَهم وأُدَبَاءَهُم، مثلمَا تفعل الأمم الأخرى، حتى أَنْكَرَ عليهم الخصومُ الماضي المَجِيدَ، والشَّرَفَ التَّلِيدَ، وقالوا لهم أنتم رِعَاعٌ لا ماضيَ لكم ولا حَاضِرٌ، ولن يكونَ لكم بنَتَائِجِ المَنْطِقِ يوم بَاهِرٌ، ولا مُسْتَقْبَلٌ زاهر…والأمَمُ – شرحَ الله صدرِي وصدرَكَ بالعلم، ونَوَّرَ عقلي وعَقْلَكَ بالفهم-لا تَبْنِي اليوم الباهر والمستَقْبَلَ الزَّاهِرَ، إلاَّ على ما يُضَارِعُها من أَمْسِ مَجْدٍ مُضِيءٍ، وماضي فَخَارٍ بالعَظَائِم مليءٍ، وما كانَ في هذا وذاكَ من حضارَةٍ رفيعَةِ العِمَادِ، ومَدَنِيَّة طويلة النِّجَادِ، وقادة دَوَّخُوا الممَالِكَ، وزعماءَ وَلَجُوا من أَجَلِ شَرَفِ أَوْطَانِهِم أَوْعَرَ المَسَالِكِ، وعُلَمَاءَ تَثْلَجُ الصُّدُورُ بالتَّعَرُّف على آثارهم، وأُدَبَاءَ تَقَرُّ العيون بالنَّظَرِ إلى بَنَاتِ أَفْكَارِهِم، ومُحَقِّقِينَ هَذَّبُوا العُلُومَ وأَقَامُوا قَنَاتَهَا، ومُدَقِّقِينَ صَقَلُوا الفُنُونَ مما عَلَقَ بها من صَدِّ الأوْهَامِ، وزِنْجَارِ الأساطيرِ، لهذا نرى الأممَ الحيَّةَ تَتَعَلَّقُ لبلُوغ هذا المَرَامِ، حتى بخيوط الرُّتَيْلاَء، وتَجْمَعُ له غبارَ الهوَاءِ، وتُخْرِجُ من العَدَمِ وُجُودًا، وتَنْشُرُ من الخِرَقِ البَالِيَة أعلاماً وبُنُودا، وتَبْنِي للنَّاشِئَة من الحَبَّاتِ قِبَابا، لتُهَيِّئَ لاعتِزَازِهَا بأُمَمِهَا وأَوْطَانِهَا وَسَائِلَ وأسباباً”.[ ابن منصور عبد الوهاب، رسائل أبي القاسم القالمي، دار ابن خلدون:  ص4-5].

ولإيثار الخمول والابتعاد عن الظهور؛ سمعنا عمن أحرقَ كتبه لظنِّه أنه لم يؤلِّفها إخلاصا لله؛ ومنهم من امتنع عن قبول تكريمه في احتفال لزهده وابتعاده عن الأنظار؛ ويتلَوَّمُون على من يكتب سيرته ويُعَرِّفُ بنفسه؛ متهمين إياه بالكبر والعجب وحب الظهور؛ وهذا ما حاول دفعه الأستاذ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي(ت1376ﻫ) حيث يقول:”ليت المغاربَة كان لهم وُلُوع بالتاريخ، وبالأخَصِّ تاريخَ الرجال، فأكتفي بأمَانَتِهم واعتنَائِهم عمَّا سأورِدُه في هذه الترجمة المخْجِلَة، التِّي أقْصِدُ بها إظهَارَ حقيقة من حيَاتِي ربما لا يَعْرِفُها غيْرِي كمَا أعْرِفُها أنَا، وإنِّي لأَشْعُرُ بعِبْءِ ذلك على كَاهِلِي، ولكني لا أجِدُ منه بُدًّا، فلينْتَبِه إخْوَانُنَا إلى الاعتناء بتَرَاجُم الرِّجَال وإظهَارِهم مظَاهِرَهم، فالأمة برِجَالِها والسِّهَام بنِصَالِهَا وليُتَرْجِم النَّاسُ لأنفسهم بأنفسهم ما دامت الأفكار مُعْرِضَةً عن هذه الواجب، حتى لا تضيع حقائق من حياتهم ربما تتطلب فلا تُوجَدُ، وكم ضَاعَتْ من حَقَائِقَ بإهمال هذا الفن لم يجد الأسف عليها شيئا” [الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: 1/10].

في حين نرى أمما في المشارق تكرِّم علمائَها وتبرزُ منَاقبَهم، ويؤَلَّفُ في مناقبِهم وهم أحياء، ويُرَبُّون أجيَالَهم على احترامِهم والإشادة بمنَاقبِهم، بل وجدَنا من كتبَ في سيرة والده وزوجته ومن كتبَتْ في سيرة زوجِها وهم أحياء وتُقامُ التُّكريمات والاحتفاءَات لهم، ويُعَرَّفُ بهم على الأعيان في القنوات والنَّوادي والجمعيات والجامعات.

وأذكر مرة شيخاً عالما درَّسَني في الجامعة، قلت له: إنَّ داراً للطباعة بلبنان تطبع للأساتذة والباحثين الجزائريين رسائلَهم وأبحاثَهم؛ فصدَمَنِي برَدٍّ قاتِلٍ: من أنَا حتى تُطْبَعَ كُتُبِي؟ فوَقعَ كلاَمُه في نفسي أليما وموجعا؛ سرعان ما تدارك الأمرَ وطُبعَ عملُه وانتشر في المعمورة.

كذلك جرت العادة في مؤلفَاتي وتحقيقَاتي أن أطلب من أستاذ أو عالم جزائري أن يُقدِّمَ لعملي وأُثْبِت ترجمة موجزة له في أسفل التقريظ والتقديم؛ حتى نُعرِّفَ به الأجيال والقراء.

ولقد شهدنا في الآونة الأخيرة نهضة علمية في ربوع بلاد الجزائر العربية الإسلامية؛ شمالا وجنوبا شرقا وغربا؛ احتفاء بما قدمه علماؤها ورجالها من إنجازات دعوية وعلمية واجتماعية وتربوية، من خلال الجامعات والجمعيات الدعوية والخيرية والمساجد؛ ولعل في ذلك دفعا لمسبة تعلَّقت بنا معشر المغاربة؛ وخاصة الجزائريين.

ولقد شهدت أرض الجزائر المسلمة  – في خضم حراكها المبارك الذي نشهده منذ شهور – تكريم عالمين جليلين خدما العربية والإسلام والإنسانية خدمات جليلة؛ وساهما في بناء العقول وتربية النفوس وتأليف المراجع والدواوين، وهداية الناس وتوجيههم لمحبة وطنهم وإعلاء كلمته في الخافقين.

الأول فضيلة الشيخ الفقيه العالم المجاهد؛ الطاهر آيت علجت الزواوي الذي ختم تفسير الموطأ في 25 سنة، لازم فيها مسجده، وحلقته دون انقطاع ولا ملل، رغم زهد الناس في التعلم والعلم، واستدبار علماء قطرنا واستيراد المرجعيات من وراء البحار.

والثاني الأستاذ الدكتور عمار طالبي الشاوي الذي كرَّمه المكتب الولائي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بتلمسان؛ بمناسبة مرور 82 سنة على تأسيس دار الحديث التي كانت عامرة بالعلم والعلماء والعطاء والإشعاع المعرفي على تلمسان والجزائر، وكان الشيخ البشير الإبراهيمي يلقي بها 12 درسا في اليوم دون كلل ولا ملل؛ ومن محاسن الأقدار وألطافها أن يزور الدكتور الوزير أحمد طالب الإبراهيمي مدرسة والده بتلمسان قبل هذا التكريم بيومين ليقف على ذكريات طفولته ووالده وصداقاته بتلمسان.

تحدث رجال لهم قدم في خدمة البلاد والعباد، وأرسوا قيم الوسطية والاعتدال، وخدموا التربية والتعليم على مر حياتهم؛ فتكلم الشيخ سعيد معول حفظه الله فذرف الدمع، وسلب القلوب، وذكر الخصال فأسر العقول والوجدان؛ ومما قاله عنه:”الدكتور عمار طالبي اكتسب الجندية بامتياز في معسكرات الدفاع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم”؛ وذكر – وعينه تذرف بالدمع المدرار – كيف أنه كان يلقاه في مكتبة الدكتور عروة، ومع المفكر الجزائر الفذ مالك بن نبي صاحب النظرات في الحضارة وبناء الإنسان، وأيام ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت بمثابة الجامعات المتنقلة شرقا وغربا، بما كانت تستضيفه من فطاحل علماء المسلمين.

تكلم الأستاذ محمد الهادي الحسني، وإذا تكلم الحسني فالعيون ترقب كلامه، والأقلام تقيد شوارده، والعقول تستوعب فوائده؛ وذكر أن الدعوة إلى الله وعظمة الرجال بقدر تفانيهم في خدمة ما يؤمنون به؛ وكان ابن باديس رحمه الله يلقي دروسه فوق كيس من قمح في سوق مدينة برج بوعريريج؛ ليعلِّمَ النَّاس ويرشدَهم ويدعُوَهم لطاعة الله ومحاربة الجهل والاستدمار الفرنسي الجاثم على العقول والنفوس.

لقد خلف الدكتور عمار طالبي تراثا علميا ومؤلفات وتحقيقات كثيرة جدا، وتخرج عليه في الجامعات عدد كبير جدا من الإطارات والكفاءات العلمية؛ وهو حلقة وصل بين جيل الاستعمار وجيل ما بعد الاستعمار وجيل الحراك الشعبي الذي يسير مخترقا الآفاق ليغير من حال ترزح تحته الأمة الجزائرية في حاضرها، لتغير من هذا الواقع الأليم الذي أدخلنا فيه المجرمون والفاسدون، ولنرسم للأجيال المقبلة شعاعا من نور يهتدون به في غياهب الظلام الدامس الذي نرزح تحته.

أذكر في شهر نوفمبر من عام 2018 م؛ شاركت في الجمعية العمومية للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين باستنبول والتقيت بالدكتور عمار طالبي وزوجته في المطار، وترافقنا في الحافلة إلى الفندق؛ فمما دار بيننا من حديث أن قالت لنا زوجته: إنه لا يدع الكتابة في كل وقت وحين” هذه همة الرجال؛ والحمد لله صرنا نكرم رجالنا أحياء، ونذكر شمائلهم ومحامدهم ونربط الجيل بصانعي أمجادهم ورافعي عمادهم وبناة حضارتهم، حتى لا ينكرنا التاريخ ولا تجحدنا الأجيال ولا تتنكر لنا المروؤات.

حفظ الله علماء الجزائر وجزى الله كل من سعى في إحياء مجدهم وإعلاء أسمائهم بين الاجيال

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com