الإنسان والدين بين مفهوم الحرية وحقيقة العبودية/ محمد مكركب
تعالوا لنبدأ بما ختمنا به المقال السابق عن المنعرجات الخطيرة في مسالك السياسات التقليدية: قالوا لا يريدون مجتمعا دينيا (لجهلهم وغفلتهم) وكأنما الدين يؤخذ من سلوك البغاة الحروريين، قلنا: لا تسمعوا كلامنا قد نكون في نظركم مخطئين، ولكن اسمعوا قول رب العاملين، وافقهوا مقاصده واتبعوا خاتم النبيين. قال محاوري: وماذا قال رب العالمين؟ قال:﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾(سورة النور:55) ألا تريدون (ونحن كذلك) عالما إنسانيا يمرح في رياض الإنسانية العابدة عبودية الحق؟ ومجتمعا فاضلا متعاملا بقيم الاستقامة على هذه الأرض كلها؟ إذن فاسمعوا كلام الله سبحانه:﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ ألا تريدون (ونحن أيضا) أن يسود السلم والعدل والسلام، والأمن والاستقرار والوِئام؟ إذن فاسمعوا قول الله تعالى:﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ فما هو الْمَطْلُوب الذي أمر به عَلَّامُ الغُيُوب؟ المطلوب: الإيمان والعمل الصالح. فَبِمَ يكون العمل الصالح؟ بالقرآن يا أهل الإيمان.
إشكالية موضوع البحث تخص قول الغافلين الذين يزعمون أنهم إنسانيون، وفي الظاهر يدعون إلى حرية الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، ولكنهم يرفضون الدين كنظام شامل لكل جوانب الحياة، فيقولون في دعوتهم اتركوا الناس أحرارا مع ربهم عز وجل، وأما مع الخلق فالتعامل بما يتفق عليه الناس في القوانين الوضعية، وعندما يتَمَعَّن المتدبر في دعوتهم المشبوهة بزعمهم التجديد، يتبين له أنهم يريدون إبعاد الإنسان عن حقيقة العبودية لله تعالى، وإخراجه من الدين والركون إلى الإباحية الأنعامية والإلحاد المغلف بدعوى العقلانية. يقولون: اتركوا كل إنسان يعيش وفق ما يمليه عليه عقله في الدين، وأما يلزم به الإنسان هو ما تم الاتفاق عليه بين الناس. فالحاكم عندهم لا شأن له بالناس صلوا أو تركوا، صاموا أم لم يصوموا، أحلوا الحرام أو حرموا الحلال فهم في زعمهم أنهم يمارسون حريتهم؟!!
1 ـ من هو الإنسان؟ الإنسان مخلوق كائن حي عاقل مفكر يألف ويؤلف، ولكن الله تعالى خلقه من أجل أن يدوم وجوده إلى الخلود في الآخرة، كان ميتا فأحياه الله، ثم يميت هالها ثم يحييه، ثم إما أن يكون في الآخرة من السعداء أو يكون من الأشقياء. حسب علمه وفهمه للغاية من وجوده في هذه الدار الدنيا﴿وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ (سورة مريم:66/67) يروى أن أبي ابن خلف وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال: زعم محمد أنا نبعث بعد الموت، والعبر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. المكذبون بالدين يتركون الصلاة والزكاة ولا يلتزمون بشرع الله ويزعمون أنهم أحرار ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾(سورة مريم:59/60) شاء الله تعالى أن يخلق الإنسان بهذه القدرة العقلية والفكرية والارتقاء الخلقي والتكريم الأدبي الرفيع كل ذلك ليقوم هذا الإنسان بواجب مُقَدَّسٍ جليل القدر وعظيم الشأن، هذا الواجب هو العبادة، فالإنسان لم يخلق ليفعل ما يشاء، ويحيا كما يشاء، إنما ليفعل ما يشاء الخالق سبحانه وتعالى﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (سورة الذاريات:56). هل يمكن أن يحيا الإنسان لغايته بغير دين؟
2 ـ فما هو الدين؟ الدين نظام حياة الإنسان، الدين بيان لأصول الإيمان؟ بما شرع الله سبحانه لعباده ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا﴾ (الشورى:13) والدين الذي هو نظام لكل مقتضيات الحياة الإنسانية، هو:[الإسلام}. قال الله تعالى:﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ﴾ وقال تبارك وتعالى:﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ فدين الرسل والأنبياء والبشر من آدم إلى آخر إنسان هو:[الإسلام] وليس في حياة المسلمين مَذَاهِب دينية، وشِيَع انتمائية، وفِرَق حزبية. قال الله تعالى:﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾(الروم:32).
3 ـ هل من حرية الإنسان أن يختار من الدين ما يوافق عقله، وفي ظن بعضهم وزعمهم أن في القرآن والسنة ما لا يتوافق مع العقل، وهذا افتراء. قال الله لأهل الكتاب:﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(البقرة:85). وقال للمؤمنين عامة:﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾ (الأحزاب:36). ورد في الوصية الثانية عشرة من كتابنا:(الوصايا الرسالية) ص:90 [الحرية هي حق الإنسان في الانتفاع بحقوقه المشروعة المادية والمعنوية، والقيام بواجباته الدينية والدنيوية، والاستمتاع بالمباح الطيب] فالشريعة الإسلامية أعطت الإنسان حريته كاملة بل أمرته بأن يكون حرا كريما، والذي حرمته الشريعة ومنعته ونهت عنه لا يقال عنه: تقييد للحرية، وإنما يقال أن ما نهت عنه الشريعة ليس من الحرية، فتنبه لهذا، فما يخالف الشريعة اعتداء على حرية الإنسان.
4 ـ من خصائص الإنسان أنه لا يعلم الغيب، وهذا يقتضي منه أن يتبع ما أمر به علام الغيوب، وأن الإنسان لا يحيط بكل علم، وهذا يقتضي منه التعلم والسؤال عن الدين، وأنه لا يتكبر على العلم والعلماء، وأن الإنسان ضعيف وهذا يقتضي منه أن يتوكل على الله عز وجل، وأن عقل الإنسان لا يدرك كل مقاصد الدين إلى درجة الاقتناع واليقين، وإنما العقلاء يتبعون النص الشرعي ما دام أنه أمر الله. قال الله تعالى:﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(هود:112).
الاستقامة المأمور بها في هذه الآية أمر بالطاعة على الإطلاق باتباع الكتاب، وهذه الاستقامة تقتضي الإيمان بالغيب كله، وعدم التفرق والاختلاف في أسس الدين وأصوله، وامتثال أمر الله في كل ما شرع من العبادات والمعاملات، ثم الاحتكام إليه عند النزاع واختلاف الرأي.
5 ـ فماذا يعني الإنسان وَالدِّينُ؟ هذا يعني أن المسلم المتدين أن يكون منضبطا بشريعة الإسلام في صلاته وزكاته وصيامه وحجه كما جاء البيان في القرآن والسنة، وأن يكون منضبطا بشريعة الإسلام في زواجه وأسرته وميراثه وبيعه وشرائه، وأن يكون منضبطا بشريعة الإسلام لا يخالف ما أجمعت عليه الأمة مما فهمه جمهور العلماء من القرآن والسنة، دون أن يتمذهب بمذهب يخالف فيه الانتماء العام للإسلام، ومن ثم أن لا يسمي انتماءه إلا أنه مسلم.