ما قل و دل

صور من الشجاعة الأدبية/ محمد الصالح الصديق

لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خرسان، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري، ومحمد بن سيرين والشعبي، فقال لهم:

إن يزيد خليفة الله، استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إلي بالأمر من أمره فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر فما ترون؟

فقال ابن سيرين والشعبي قولا فيه تقية.

أما الحسن البصري فقال له:

يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكا فيزيلك عن سريرك ويخرجك من قصركن إلى ضيق قبرك، قم لا ينجيك إلا عملك…”.

هكذا آثر الحسن البصري رضا الخالق جل وعلا على رضى المخلوق، ووقف في وجه الأمير وقفة شجاع ليؤدي ما أمره الله به، ويبرئ ذمته من عهدة الأمانة الملقاة على كاهله.

وهكذا صدع بكلمة الحق غير مكترث بمنفعة شخصية عاجلة تنجد له وراء الملاطفة والمجاملة.

إن جميع علماء هذه الأمة يعرفون هذا الحديث النبوي الشريف: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، ويذكرونه في كتبهم وخطبهم ومجالسهم، ولكن القليل منهم من يترجمه إلى واقع الحياة، لأن نقله إلى السلوك العملي صعب عسير يكلف متاعب ومشاق، إن لم يكلف الموت أو الغياب في السجون.

ولو أن العلماء نهضوا بأوامر ربهم وقالوا للظالم أسأت مهما كان، لكان لهم ولدينهم شأن آخر، ولكنهم –إلا من رحم ربُّك- خافوا أصحاب السلطة وعظموهم وأطاعوهم، وربما خرَّجوا آيات من القرآن الكريم وفق ما يرضيهم ويساير ميولهم.

“ولن تصلح الأمة إلا إذا صلُح علماؤها”، يقول الإمام عبد الحميد بن باديس في هذا المضمار ونعم ما يقول:

“لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعلمهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل، فكذلك المسلمون يكونون.

فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علمائهم، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم”(1)

ومن أراد أن تسمو عند الله مكانته، ويعظم أجره، ويعيش في القلوب معنى، وعلى الألسنة ذكرا حميدا، فعليه ألا يخاف إلا الله، وأن لا يسعى إلا في رضاه، وأن يعلم أن من رفعه ارتفع، ومن وضعه اتَّضع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الشهاب، ج11/ 10أكتوبر1934م

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com