حديث في السياسة

رسالتي إلى إطارات الجمعية.. بعد جامعتهم الصيفية/ التهامي مجوري

بمناسبة انعقاد الجامعة الصيفية لهذا العام 2019، التي كانت تحت عنوان “الوحدة الوطنية والتحديات”، وبشعارها الباديسي الخالد “ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان”، استحضرت نصا رائعا لابن باديس في تعريف الوطنية يقول فيه: “من نواميس الخلقة حب الذات للمحافظة على البقاء، وفي البقاء عمارة الكون، فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته لما يرى من حاجته إليهم، واستمداد بقائه منهم وما البيت إلا الوطن الصغير. فإذا تقدم شيئا في سنه اتسع أفق حبه، وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه، فإذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره، وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد فيهم صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه ونوازعه ومنازعه شعر نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته، ولما فيه من غريزة حب الذات وطلب البقاء، وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنية. فإذا غذي بالعلم الصحيح، شعر بالحب لكل من يجد فيهم صورته الإنسانية وكانت الأرض كلها وطنا له، وهذا هو وطنه الأكبر. هذا ترتيب طبيعي لا طفرة فيه ولا معدل عنه، فلا يعرف ولا يحب الوطن الأكبر إلا من عرف واجب الوطن الكبير، ولا يعرف ولا يحب الوطن الكبير إلا من عرف وأحب الوطن الصغير”[آثار ابن باديس].

ثم راح ابن باديس يصنف مستويات الناس في تعاملهم مع تلك الدوائر الانتمائية الفطرية، وقسمها إلى أربعة مستويات أو أقسام:

  1. قسم لا يعرفون إلا أوطانهم الصغيرة، وهؤلاء هم الأنانيون الذين يعيشون على أممهم كما تعيش الطفيليات على دم غيرها من الحيوان.
  2. وقسم يعرفون وطنهم الكبير فيعملون في سبيله كل ما يرون فيه خيره ونفعه، ولو بإدخال الضرر والشر على الأوطان الأخرى، وهؤلاء أيضا لا يقلون سوءا عن سابقيهم؛ لأنهم أخضعوا أنفسهم إلى وطنية قاصرة فيما يعرف بالشعوبية والقومية العرقية.
  3. وقسم زعموا أنهم لا يعرفون إلا الوطن الأكبر، وأنكروا وطنيات الأمم، كما أنكروا أديانها وعَدُّوها مفرقة بين البشر..، فيما يعرف بالتنظيمات الأممية التي تدعو إلى تجاوز كل التقاليد البشرية القديمة.
  4. وقسم اعترف بهذه الوطنيات كلها ونزلها منازلها غير عادية ولا معدو عليها، والقسم الذي يعترف بما فطر عليه الإنسان ولا ينفي إمكانية التطوير والإضافة في جميع مراحل حياة الإنسان وهي رسالة الإسلام الخاتمة.

وبعد عرضي لهذا النص على واقعنا الإسلامي والوطني وواقعنا في الجمعية كتنظيم رسالي جامع، وحاولت فهم ما نحن عليه من تدنٍّ وفقر في الفكر والروح النضالية والانضباط التنظيمي…، وتساءلت هل نحن نتمتع بمثل هذا الفهم العميق والمستوى التفاعلي مع التجربة البشرية والإسلامية والوطنية والتنظيمية؟ وهل استطعنا تجاوز أنانيتنا التي شبهها ابن باديس بالطفيليات؟

إن انتماءنا لجمعية العلماء كتنظيم رسالي، في منزلة بين منزلتي الانتماء الأسري والانتماء الوطني، والتعبير الصادق عن هذا الانتماء، لا ينزل عن مستوى ولاءاتنا الأسرية والوطنية. فهل نحن في المستوى من الحب والأثرة والجهاد الذي تستحقه منا الجمعية؟ وهل نحن متفاعلون مع ما تريده منا؟

بكل أسف لم ألمس هذا، لا سيما فيما أثير من لغط حول بعض مواقف الجمعية السياسية، والطريقة التي تعامل بها أبناء الجمعية مع قيادتها…

إن مواقف الجمعية التي لم نقدرها أو لم يقدرها بعضنا حق قدرها اليوم، بسبب غياب المعلومة، أو بسبب الانقطاعات الحاصلة في متابعة بعضنا لنشاط الجمعية وتلقي أخبارها، سيكون لها شأن عظيم سواء أصابت أو أخطأت؛ لأن مواقفها تلك مبنية على اجتهاد علمائي، بعيدا عن الحزبية الضيقة، وعن الانانية المصلحية القاصرة، والمجتهد كما لا يخفى عليكم حاله بين الأجر والعذر.

وأريد بهذه المناسبة لفت انتباه إخواننا من أبناء الجمعية، والمؤطرين لشُعَبها الولائية والبلدية، إلى حساسية ما نستقبل من أيامنا، وإلى استحضار شعورهم الدائم بأنهم على ثغر من العمل الدعوي، التربوي اليومي الفعال؛ لأن العبرة بالأفعال الدائمة المتواترة، وليس بالقفزات العابرة..، كما لا أتردد في نصح بعضهم بمراجعة فساد الخلل الذي أوقعوا فيه أنفسهم، بمقاطعة أنشطة الجمعية التي يُدْعَون إليها، والضن على قيادتها بالاتصال والنصح والاستبصار والتبصير.

ذلك أن أبسط أخلقيات الانضباط التنظيمي، تفرض اتباع الهياكل التنظيمية واحترامها، في شؤون الجمعية كلها، مدحا وذما، ثناء واحتجاجا، رضا وسخطا.. ولا يُلْجأ إلى حديث المقاهي في معالجة أي أمر خاص بالجمعية.

تمنيت لو أن إخواننا من الذين انتقدوا أو قاطعوا أنشطة الجمعية..، عقدوا اجتماعات على مستوى الولايات بمبادرات منهم، وتقدموا لقيادة الجمعية بما يرونه من مواقف واجتهادات..، بدلا من أن يفضفضوا على مواقع التواصل الاجتماعي ليعبروا عن سخصهم واستنكاراتهم فرادى…، بلا مسؤولية ولا وخز ضمير.

وإذا كانت مجالس المقاهي تعد في عرف قدمائنا “من خوارم المروءة”، فإن تغاريد إطاراتنا على تلك الصفحات، لا تختلف كثيرا عن حديث المقاهي، إن لم تكن أسوأ.

لا أدعو هؤلاء الإخوة لأن يحملوا أنفسكم ما لا يطيقون، ولكنني أحملهم ما ينجر عن بعض ما يقولون ويفعلون؛ لأن أقوالهم الفردية هنا وهناك..، هي كلام في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسست على تقوى من الله، وجمعية العلماء كما يقول أخونا الشيخ الدكتور عبد الحليم قابة: إن الجمعية كالماء الطهور، و”الماء إذا بلغ القلتين لا يحمل الخبث”، والذين يشعرون أنها على ضلال أو أن قيادتها ليست في المستوى، هم واهمون كوهم حاطب الليل، يقبض على الثعبان ويحسبه حبلا.

قد لا تكون قيادة الجمعية موفقة –نسبيا- في بعض مواقفها، ولكن ما تقوم به لا يخرج عن الإطار العام الذي يشمله الاجتهاد. والاجتهاد كما أسلفنا يتراوح بين الأجر والعذر.

فـ(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).. وظنوا بإخوانكم في الجمعية خيرا تجدوه، ولا تسمحوا للشيطان بالتسلل إلى نفوسكم، ولكن (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ).

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com