“قاع السور” الذي نعرف اليوم، لو نطق لبكى وأبكى…/ فوزي سعد الله
كانت هذه البقعة المعروفة إلى اليوم بـ: “قاع السور”، في باب الوادي، تحتضن مجموعة من أجمل القصور والديار في “بهجة” سيدي عبد الرحمن الثعالبي، وإن لم يبق اليوم سوى بضعة منها معدودات على أصابع اليد نسميها عادة “قصر الرِّيَّاس”.
ما لم يعد يُعرَف، وليس منذ اليوم فحسب بل تقريبًا منذ بداية القرن 20م، هو أن في هذه الحومة العتيقة الجميلة الفخمة المطلة على البحر كانت مياه البحر تلامس وتداعب عتبات بعض الديار والقصور المفتوحة على الشاطئ في وقتٍ لم يكن كزماننا هذا بل في زمان كان فيه الناس يتقنون فنون العيش الرغد ويجيدون الاستمتاع بالحياة مثلما كنا نفعل في بيازين غرناطة وفي زهراء قرطبة وفي بساتين آندراتش…ولا يجب أن نغفل أن نمط الحياة في مدينة الجزائر أصبح أندلسيا خالصا تقريبا منذ القرن 16م وترسّخ مع قدوم الموريسكيبن في بداية القرن 17م…
وما زالت تشهد على فن العيش الرّاقي في مدينة الجزائر العثمانية وفي هذه البقعة من أحيائها، قاع السور، لوحات زيتية ومائية لفنانين وفنانات أوروبيين تنقل لنا أجواء جولات عائلية في البحر بمحاذاة الشاطئ على متن الزوارق والقوارب الصغيرة قبالة ديار وقصور من ثلاثة إلى أربعة طوابق…
ما لم يعد يُعرف أيضا عن هذه البقعة الجميلة أنها كانت تحتضن على بعد أقل من 100 متر من قصر الرياس الحالي، ونحن متوجهون إلى الأميرالية وساحة الشهداء، أحد أهم الجوامع في مدينة المجاهدين وأسياد البحر. وهو جامع “المَقَرُون” (Macaron) الذي يبدو اسمه غريبًا، وهو غربب بالفعل، بسبب التشويه الذي طاله من طرف المحتلين الفرنسيين. على أيديهم، تحوّل اسم الجامع من “المقرئين” أو “المقرؤون”، أي من قراءة القرآن وتلاوته، إلى “المَقَرُون”…
ولو توقف الأمر عند هذا الحد ربما لَهان، غير أنه تطوّر إلى أسوأ.
في سنة 1891م/1892م، قررت إدارة الاحتلال تهديم أجمل ما في هذه البقعة من قصور وديار لشق الطريق الحالي المارّ على قصر الرياس، مثلما قررتْ بناء سور فاصل بين هذه البنايات الجميلة العتيقة والبحر، فما عاد البحر جزءا من الديار يعكس صوَرها تحت نور القمر ولا بقِيت الديار تغتسل وتنتعش عند غروب الشمس، كما جرت العادة منذ مئات السنين، بمياه الأمواج.
ثم واصلت ادارة الاحتلال قضم العمران الجزائري العثماني المتبقي من فترة إلى أخرى حتى لم يعد حيّ قاع السور التاريخي يشبه قاع السور الذي عرفه آنذاك أهل المدينة العتيقة بل أصبح أقرب إلى الخربة والعهن المنفوش. وحتى البنايات الأوروبية النمط التي حلت محل قصورنا والديار، والنخيل الذي جيء به إلى هذه الحومة لتزيينها، لم تُعِد أبدا للحيّ العتيق نضارته وجماله وعمقه التاريخي المهدور…
وهكذا تم طيّ مرحلة من التاريخ ليست ككل التواريخ في هذه البقعة التي لا تشبه أيَّ بقعة أخرى من المدينة “المحروسة بالله”. البقعة التي ترجّل فيها خير الدين بربروس منتصرًا على الغزاة الإسبان بعد تحرير حصن البنيون القريب ثم متابعًا لبناء أول مرسى في تاريخ المدينة/القلعة بسواعد أسرى الحصن ذاتهم وقائدهم De Vargas… وهي البقعة التي قاتل فيها أيضا شقيقُه عروج في معارك شرسة الحملات الاستعمارية المتوالية انطلاقا من إسبانيا بعد سقوط غرناطة… قبل أن تستعيد المدينة أمنها واستقرارها ويساهم هذا الشاطئ في ازدهار صناعة السفن والزوارق التي ستصل بتجارتها إلى مختلف جهات العالم…
“قاع السور” الذي نعرف اليوم، لو نطق لبكى وأبكى…