الإنسان المربي بين قيمتي السمع والإسماع والتبين والإقناع/ محمد مكركب
ما أجمل أن يكون كل مسلم معلما إنسانيا ربانيا يستقيم مع نفسه، وفي عبوديته لربه، ومع أولاده وجيرانه، وما أَجَلَّ وأجمل أن يتألف المجتمع المسلم من ربانيين حضاريين، يتعاملون بالمنطق والحوار بعيدا عن الشجار والنار، ويتلاطفون بألسنة الأدب والحكمة والرفق والوقار بعيدا عن العنف والعجب والاستكبار، فينشأ الأطفال ثم الشباب ثم الرجال في بيئة حضارة ربانية، وفي وسط القيم الإنسانية الإيمانية، ولن يتحقق هذا إلا إذا سُلِّم زِمَامُ التربية والتعليم للعلماء الربانيين، أما إذا ظلت المناهج التربوية سجينة الجهل والأهواء، فنسأل الله أن يبعد الغباء ويرفع البلاء، ويفتح أبواب المستقبل على يد العلماء الحكماء.
الإنسان المربي الرباني هو الذي يحسن السمع والتَّبَيُّن، والتلقي بأدب الاستماع، كما يحسن الإسماع والإقناع، كل ذلك عن بصيرة ووعي وفهم. قال الله تعالى:﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾[آل عمران:79].
ورد الأمر في هذه الآية بأن يكون من يَبْلُغُهم الوحيُ عامة، والحكام والدعاة والأئمة خاصة، الذين يدعون أممهم، ويقودون أقوامهم، بأن يكونوا رؤساء ودعاة في المعرفة بأمر الله ونهيه، وأئمةً في طاعته وعبادته، يتعلمون الوحي بكونهم معلِّمي الناس الكتاب، وبكونهم دَارِسيه عن فهم باتباع الصواب. ومن صفات الربانيين أنهم علماء فقهاء حكماء على بصيرة وهداية من الله عز وجل، ومن تعريفات الربانيين أن:”الرباني هو الذي تعلم كتاب الله عن فهم وإدراك لمقاصده المقتضى فهمها، ثم العمل بما تعلم إيمانا وعبادة وخلقا، ثم بلغ ذلك غيره، وعَلَّم بصدق وإخلاص وحكمة”. هل يمكن أن يكون الطالب المجتهد الطموح اليوم هو المعلم الرباني غدا هذا هو المطلوب من التذكير بهذ البحث؟ هل يمكن أن يكون الولد الصالح المحسن اليوم هو الأب الرباني غدا، الذي يقول لابنه:﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ هل يمكن أن تكون البنت المطيعة اليوم الحاملة للقرآن والعلم والبيان هي الأم الْمُطاعة الْمُوَقَّرة غدا، التي تنجب أولادا يُدْخِلونها الجنة؟ إننا نريد بإذن الله إعداد المجتمع الإيماني الحضاري، بمفهوم الربانية، وتتحقق هذه المقاصد النبيلة بصلاح المنظومة التربوية، عندما يكون الوزير والمدير والمعلم يمتازون بالعلم الحق والإخلاص التام لله تعالى ثم للوطن والأمة.
إن الإنسان يتعامل ويتواصل بالإرادة والسلوك مع الجهات التي تحكم ظروف حياته، هل الإنسان يريد الدنيا للدنيا وفقط؟ فإذا كانت هذه نيته فيظل فِكْرُه حَبِيسَ التقليد والإمعة، وهذا إنسان دنيوي وليس ربانيا، يعيش لأنانية نفسه ولا يحيا لعبادة ربه وخدمة دينه ووطنه، فيكون سلوكه الجشع والطمع، يغرق في الطين وينسى رب العالمين.
إن سلوك الإنسان لا يستقيم إلا بالعلم والحكمة والفضيلة، وتذكر عندما قلت لك:”الإنسان المربي الرباني هو الذي يحسن السمع والتَّبَيُّن والإسماع، أي: يحسن التلقي عن أدب وتواضع، والإسماع بالحجة والإقناع، كل ذلك عن بصيرة ووعي وفهم” فالإنسان الذي يكون مُسَيِّرا ناجحا، أو معلما مربيا ناجحا، أو أبا، أو حاكما، أو قائدا، أو مهما كان، أن يحسن السمع والإسماع، لأن الإنسان إما أنه يتلقى العلم أو الأوامر فإذا كان يحسن السمع علم كيف يجيب ويستجيب بضوابط الشرع والحكمة. وإما أنه يبلغ العلم أو يصدر الأوامر وهنا عليه أن يحسن الإسماع، أي: يُسْمِع الناس الحق بالحق، في حوار أو مناقشة أو تشاور. تخيلي أنت أيتها الزوجة الصالحة بعد أن اخترت زوجك أو أختير لك أو جمعتك الظروف معه بقدر الله وحده لا رب سواه، فهو الذي يخلق ويأمر﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾[الأحزاب:38] وكان أمر الله قضاء مقضيا بالحق، وحكما ساريا في الخلق، تخيلي نفسك أنكِ أستاذة حكيمة كيف تكونين ربانية مع زوجك، كيف تحسنين السمع فيما أمر أو نهى أو طلب، وإذا أردت التعبير عن حاجة ورغبة أو مظلمة كيف تحسنين إسماعه بالحجة والأدب. هذا هو موضوع البحث هنا. وأنت أيها الزوج، وأنت أيها الحاكم، وأنت، وأنا ونحن وأنتم. كيف نفسح المجال واسعا لمنطق اللسان، ونَغْمِد السيوف والسِّنَان، ونستغني بالبيان عن النيران يا أهل الإيمان العاملين بالقرآن ويا بني الإنسان؟. نريد من الإنسان المربي والمعلم الرباني أن نتعاون على إيقاف انشطار الجريمة التي بدأها ابن آدم الذي قال لأخيه عن جهل منه وغباء:﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ ولو قال له لأنصرنك لكان خيرا له وأكمل وأرحم. فكم كانت حاجة القاتل للمقتول لو كان يسمع أو يعقل ويفهم، ولكن الجهل أعماه، وأصمه فأرداه. ولذلك أخبر الله تعالى أن الكافرين الذين هم عُمْيُ البصيرة في الدنيا لا يسمعون كلام الله ولا يستجيبون، يقولون يوم القيامة:﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ وكثير من الناس عندما يقع في المصيبة ويصبح يتجرع غصص الألم والندم، تجده يقول: يا ليتني سمعت النصيحة!! فلم يسمع السجين النصيحة عندما كان يُرَوِّجُ المخدرات، ولم يسمع الخائن عندما كان يختلس أو يخون الأمانات، ولم يسمع الراسب والخائب عندما كان يضيع الأوقات ويهجر الآيات.
إن اليهود والنصارى الذين يدخلون النار بسبب كفرهم وتكذيبهم بالقرآن، وبعدم الإيمان بخاتم النبيين، سبب ذلك أنهم لم يسمعوا، بل أكثر من هذا قالوا:﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ قال الله تعالى في القرآن:﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾[النساء:46] ثم كم من الحكام السياسيين عندما كانوا يُنْصَحُون بالتوبة والعمل بالشريعة كانوا لا يسمعون وفي طغيانهم يعمهون حتى أصابهم البلاء الذي أسقطهم في الهلاك فما نفعهم المال ولا الاستبداد ولا نفعهم الشرق ولا الغرب بالحماية ولا بالإمداد، فمنهم من مات بالنار، ومنهم من لاذ بالفرار، ومنهم كفاه الخزي والعار. ومنذ فرعون وهامان وحكاية الطغيان تتكرر هنالك أو هناك عبر الزمان، وينحرف بنو الإنسان عندما يخرجون عن طاعة الرحمن﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾[طه:61] (فَيُسْحِتَكُمْ: يستأصلكم ويبيدكم بعذاب شديد).
ونحن في هذا البحث المخصص للمعلم الرباني أطلنا في هذه المقدمة لسببين: الأول: ليعلم المعلم المربي الذي نخصص له المقال التابع لهذا إن شاء الله عز وجل في العدد القادم بإذن الله تعالى، ليعلم أنه لابد على المعلم أن يتزود بهذه الثقافة الإنسانية كتنبيهات موقظة واقية لإحياء الضمائر فالمعلم هو الذي يتخرج على يده القضاة، والأطباء، والوزراء، والرؤساء، فإذا ساء ساءوا وإذا أحسن أحسنوا، قال طالب مجتهد لمعلمه بعد أن صار ذلك الطالب رئيس دولة: لقد ضربتني مرة ظلما، وما كنت أذنبت شيئا، وما أردت ذكرها غضبا وإنما لحب لك، ويا ليتك تزيدني ضربا حتى الآن؟؟!! فقال المعلم الرباني الحكيم للرئيس الحكيم، بعد كلام لطيف: لقد تَوَسَّمْتُ فيك النجابة والفطانة، فقلت: قد يكون لك شأن، فإذا ذقت مرارة الظلم فلا تظلم!!.
السبب الثاني: أننا قلنا في المقدمة بأننا لا نقصد المعلم اصطلاحا وحده بل نريد من الجميع أن يكون متعلما ومعلما، وفي الحديث[ خيركم من تعلم القرآن وعلمه] (البخاري:5027).