الرقي الأخلاقي شرط ضروري لأي رقي حضاري…/ محمد العلمي السائحي
إن الكثير من الناس في عالمنا اليوم وفي بلادنا العربية -على وجه الخصوص- يتعجبون لعجز دولهم عن تحقيق أي تقدم حضاري يذكر، مع ما يتوفر لهم من قدرات اقتصادية بالغة الأهمية، وإمكانيات مالية ضخمة، ووسائل مادية غير محدودة، وطاقات بشرية هائلة، بل إن الكثير من هذه الدول لا تزال تعيش عالة على الإنجازات التي خلفها لها المحتل، وعجزت على أن تضيف إليها هياكل جديدة أخرى، مع ما تدعيه من ارتفاع نسبة التعليم فيها وتقدم البحث العلمي، وتلك لعمري دعوى فارغة، لو كان هناك تعليم فعلي، وبحث علمي رصين، لأثمر ذلك بالضرورة ازدهارا اقتصاديا، ورقيا اجتماعيا، وإذ لم يكن ذلك، فذلك يعني أننا أمام ادعاء كاذب لأنه ليس في الواقع ما يؤيده ويعضده، بل كل ما فيه يعارضه ويفنده، وهذه الحقيقة هي التي تردنا إلى تلك العلاقة الوثيقة بين الأخلاق والحضارة، التي كشف عنها المفكر الجزائري الفذ، مالك بن نبي رحمه الله، حيث بين فيما كتبه من مؤلفات حول المشكلات الحضارية، أن الحضارة غالبا ما تستند إلى فكرة دينية أو أخلاقية، فماذا يعني ذلك؟
إن القيم الأخلاقية ضرورية للإنسان لكي يوجه نفسه في هذا الوجود، وليوجد لنفسه حوافز تعطي لجهده معنى، وليضمن لنفسه التقدم والرقي باضطراد، فيما يتولاه من أعمال، ويقوم به من أنشطة.
وغني عن البيان إن الحضارة هي نتاج للجهود الإنسانية المبذولة في إطار أعمال هادفة، ترمي إلى بلوغ أقصى درجات الكمال.
أي أن الأعمال التي تنتج لنا منجزات حضارية، هي أعمال تتطلب قدرا كبيرا من الوعي، وتحتاج إلى الكثير من الدقة والقدرة على الإتقان، كما يتجلى ذلك في الآثار التي خلفتها لنا الحضارات السابقة، وذلك يشهد على أن الفعل الحضاري يرتكز إلى التزام أخلاقي، يجعل الإنسان مسئولا عن أفعاله، مما يحمله على مراقبة نفسه، والحرص على أن لا يصدر عنه إلا ما هو في غاية الكمال والجمال، وهنا تتكشف لنا تلك العلاقة الوثيقة بين الأخلاق والحضارة.
ويخطئ من يظن أن الحضارة هي وليدة الضرورات البيولوجية، والحاجات المادية فحسب، في حين هي أقرب إلى أن تكون استجابة عقلية تتجلى في أنشطة وأعمال ترمي إلى تلبية مطالب نفسية ولدتها ظروف بيئية معينة فانتشار الأمراض في بلد ما، يدفعه إلى إيجاد هياكل صحية والتوسع في العلوم الصحية فيتقدم في هذا المجال أكثر من غيره.
والبلاد التي تطل على البحر ولها سواحل كبيرة لا يستغرب منها الاهتمام بعلوم البحار، وصناعة السفن، والعناية بالتجارة والسياحة.
وهكذا يتبين لنا أن الحضارة هي نتاج لسعي الإنسان، لتلبية مطالب نفسية ولدتها لديه ضغوط بيئية، تتطلب منه بذل جهود عقلية وبدنية في ظل التزام أخلاقي صارم…
وهذه الحقيقة هي التي أدركها الشاعر بحدسه وعبر عنها بقوله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن
هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا