حوار

الدكتور نصر الدين بن غنيسة في حوار ثقافي مع “البصائر”/ حاوره:حسن خليفة

 

  • هناك فرص عظيمة للشعوب للتحرر والانعتاق من الهيمنة الغربية.
  • صناعة الوعي أهم وظائف الجامعات …لكن جامعاتنا لا تفعل ذلك.

الأستاذ الباحث الذي نحاوره في هذا العدد (أ.نصر الدين بن غنيسة) في سياق المقاربة التعريفية بأعلامنا وأساتذتنا ودعاتنا وعموم شخصياتنا العلمية أستاذ متعدد المواهب والاهتمامات، فهو باحث أكاديمي رصين، ومسرحي مقتدر، وصاحب اهتمامات ثقافية في مجال الوعي الحضاري والترجمة، وعضو في عديد الهيئات العلمية والفكرية والثقافية في الداخل والخارج. وعليه كان حوارنا معه  متشابكا تشابك اهتماماته. يسعدنا ـ دائما ـ أن تكون البصائر منبرا للتعريف والتواصل والتثاقف مع رجال الفكر والثقافة والأدب والعلم في وطننا، وفي المهجر…وإلى الحوا ر.

 

نبذة مفيدة عن الأستاذ الدكتور بن غنيسة

  • من مواليد 1964 بعنابة (الجزائر) أستاذ التعليم العالي في جامعة بسكرة حاليا.

*كان مساره العلمي على النحو التالي:

– 1997: شهادة دكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية (آداب عربية ولسانيات عامة)،جامعة  (Aix-marseille 1) فرنسا.

– 1992: شهادة الدراسات المعمقة في الآداب واللغة العربية، جامعة (Aix-marseille 1)  فرنسا.

– 1988: ليسانس آداب ولغة عربية، جامعة باتنة.

– 1983: بكالوريا رياضيات، ثانوية عباس لغرور، باتنة.

خبرات مهنية:

-2013- الآن: أستاذ التعليم العالي، قسم الأدب العربي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر.

-2007- 2013: أستاذ محاضر- أ- ، قسم الأدب العربي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر.

-2008-2009: أستاذ مشارك زائر، كلية الدراسات الإسلامية والعربية، دبي، الإمارات العربية المتحدة.

-06-2007: أستاذ مساعد مكلف بالدروس، قسم الأدب العربي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر.

-05-2006: أستاذ مساعد، قسم الأدب العربي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر.

-02-2005: وسيط ثقافي، المعهد المتوسطي للدراسات الإسلامية، مرسيليا، فرنسا.

-00-2002: أستاذ اللغة العربية بالمعهد المتوسطي للدراسات الإسلامية، مرسيليا، فرنسا.

-96 -2005: مدرس آداب ولغة عربية، المركز الثقافي السعودي، طولون، فرنسا.

-89 -1990: مدرس مادتي: تاريخ المسرح والنقد المسرحي، المعهد الوطني للفنون الدرامية،  باتنة، الجزائر.

-88 -1989: مدرس آداب ولغة عربية، ثانوية ابن بولعيد، باتنة، الجزائر.

 عضوية الجمعيات والمنظمات العلمية:

– مدير مخبر “السيميائيات والممارسات الخطابية” جامعة بسكرة، الجزائر، 2018-2020.

– عضو الهيئة الاستشارية في مجلة “كلية الآداب للعلوم الاجتماعية والإنسانية”، جامعة محمد خيضر بسكرة الجزائر، 2007-2008.

– عضو فرقة بحث “فهرسة وتصنيف مخطوطات اللغة والأدب في الزاوية العثمانية بطولقة”، 2007-2008.

– عضو في حلقة البحث المشكلة في إطار نشاطات Institut des sciences de théologie et de religion بمرسيليا خلال العام الدراسي 99ـ 2000، وكان موضوعها [صورة الآخر في المخيال الجمعي ].

– عضو في وحدة بحث حول الأدب العربي، جامعة Aix-Marseille 1، خلال السنوات 94-1997.

– عضو الجمعية الفرنسية للسيمياء.

– عضو الجمعية الدولية للسيمياء البصرية.

– رئيس وحدة بحث “الهوية السردية في الرواية العربية”، تحت إشراف مخبر وحدة التكوين والبحث في نظريات القراءة ومناهجها، جامعة بسكرة 2014-2018.

دراسات منشورة:

  • Passion and Narration in the Contemporary Arab Novel, in Chinese Semiotic Studies, volume 18 issue 4, Published Online: 2018-02-17 .
  • “نحو قراءة لإشكالية الهوية والذات في الفكر الحداثي الغربي”، مجلة التواصل الأدبي، جامعة عنابة، ع 12، ديسمبر 2018.
  • صراع الحقيقة والواقع في مسرحية “االمك أوديب” لتوفيق الحكيم (مقاربة سيميائية)، مجلة مخبر ودة التكوين والبحث في نظريات القراءة ومناهجها، جامعة بسكرة، العدد الثامن، 2016.
  • L’autre selon soi dans al-Ḥayy al-Lātīnī de SuhaylIdrīs, in La revue LiCArC (Littérature et culture arabes contemporaines) est destinée aux chercheurs spécialistes de la littérature arabe moderne et contemporaine, revue à Comité de lecture dont tous les textes publiés sont soumis à l’évaluation anonyme d’un comité scientifique international, Strasbourg, France, n° 2, novembre 2014.
  • “الموضوع السيميائي ولعبة المعنى”، جزيف كورتيس، ترجمة بن غنيسة نصر الدين، مجلة سيمات، جامعة البحرين، المجلد 2، العدد 2، أفريل 2014.
  • “شخصية الحكائية وتشكيل الخطاب الإيديولوجي، قراءة فيرواية “مجرد لعبةحظ” لإبراهيم الدرغوثي”، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بسكرة، العدد 33 أفريل 2014.
  • “حفريات في استيهامات المخيال الغربي: الإسلام، الشرق والعنف في أدب الرحالة الفرنسيين في القرن التاسع عشر”، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بسكرة، العدد 30-31، ماي 2013.
  • « Vérité vs réalité dans « al-Malik Ûdibe » (Roi Œdipe) de Tawfîk al-Hakîm » in Revue Roumaine d’Etudes Francophones, publication annuelle de l’Association Roumaine des Départements Universitaires Francophones, avec comité de lecture, Université Stefancelmare, Suceavan Roumanie, n° 3, Octobre .2012
  • ” من سلطة الحداثة إلى سلطة ما بعد الحداثة- تنقيب في أوراق ميشيل فوكو الفلسفية” في مجلة (التفاهم) فصلية فكرية، مسقط، العدد 33، أكتوبر 2011.
  • « Approche interculturelle de la sexualisation des rapports « Orient vs Occident » dans le roman arabe de voyage, in revue communication interculturelle et littérature, revue scientifique trimestrielle, éditée par le Centre de recherche « Communication interculturelle et littérature » de l’Université « Dunărea de Jos » de Galaţi, avec comité de lecture, Roumanie, n° 1 (9), mars 2010.
  • “العناصر الأولية للتحليل السردي”–فصل مترجم- مجلة ( عين)، نصف سنوية محكمة، الجمعية العلمية السعودية للغات والترجمة، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، العدد الرابع، أغسطس 2009.
  • “أثر التمركز الثقافي في نشأة الهوية الأوربية”، مجلة (إسلامية المعرفة)، فصلية محكمة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الأردن، العدد 56، مارس 2009.
  • “جدلية الأنا والآخر في رواية “الحي اللاتيني” لسهيل إدريس”، مجلة (نزوى)، فصلية ثقافية، مسقط، العدد 57، يناير 2009.

12 – ” السيميائية السردية، المفهوم والإجراء”، في مجلة الآداب واللغات، مجلة دولية محكمة، جامعة الأغواط، العدد 09، مارس 2012.

13 – “جدلية الكوني والخاص في سيمياء الثقافة”، مجلة (المعنى)، دورية محكمة، جامعة خنشلة، العدد 01، جوان، 2008.

14-“صورة الإسلام في الخطاب الإعلامي الغربي”، مجلة المقدمة، كوالاالمبور، ماليزيا، العدد الأول، فيفري 2005.

  • -“الإعلام الغربي من وجهة نظر بورديو”، مجلة الإحياء، باتنة، الجزائر، العدد السادس، أكتوبر 2002.

16-السريالية، وجهة نظر”، مجلة البيان الكويتية، العدد 58،  مايو 2002.

الكتب المطبوعة:

  • الهوية مفاهيم ورهانات (مقاربة ثقافية لجدلية الأنا والآخر في السرد العربي) ، دار غيداء للنشر، الأردن، 2019.

2-في المثاقفة والنسبية الثقافية (قراءات سيميائية)، منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف، بيروت/ الجزائر، 2016.

3-La figure d’OEdipe entre l’Occident et l’Orient: Etude comparée entre la tragédie (OEdipe Roi) de Sophocle et la pièce (al-Malik ‘Udîbe)deTawfîq al-Hakîm, Editions Universitaires Européennes, Berlin, Allemagne, 2013

4-عن أزمة الهوية ورهانات الحداثة في عصر العولمة، منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، بيروت، 2012.

5-L’image de la femme occidentale dans le roman arabe de voyage, Editions Universitaires Européennes, Berlin, Allemagne, 2012.

  • فصول في السيميائيات، دار عالم الكتب الحديث، الأردن، 2011.
  • ربطة العنق الدامية، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2007.
  • في بعض قضايا الفكر والأدب، جولات في الفكرين العربي والغربي، دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، الجزائر، سنة 2002.

 

 

  • نبدأ السؤال معك عن الجامعة، وهي المحضن وحقل العمل والمثقافة والتكوين …كيف تبدو لك حياتنا الأكاديمية وأنت أستاذ متمرس في واحدة من الجامعات الكبيرة (بسكرة)؟

-ليس من عادتي أن أتبنى النظرة السوداوية للأشياء، لكن تشخيص علة ما بُغية استئصالها يقتضي نظرة موضوعية  وإن شابها كثير من الغبن، على أنها تظل رهينة تجربة محدودة زمانا ومكانا، فحياتنا الأكاديمية اليوم هي جزء لا يتجزأ من الجو العام الذي طبع الحياة الجزائرية  منذ الاستقلال والذي ظل يحلم بنهضة حضارية لم يهيء لها الأسباب، فلا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. فكان أن انغمس الجهد الأكاديمي في تعداد المنجزات الشكلية، على شاكلة سياسة دولة تسعى منذ نشأتها لتثبت للعالم وجودها عبر إحصاء الهياكل، بينما راحت الحياة الأكاديمية ضحية تجارب غير مدروسة، آخرها تبني نظام LMD دون ترو ولا دراسة متأنية، بل بإيعاز من جهات خارجية، فكان أن تحول التكوين الأكاديمي إلى حقل تجارب، كلما دخلت تجربة لعنت أختها، على غرار ما هو حادث في المنظومة التربوية.

– نتحدث تحديدا عن المستوى العلمي لطلابنا وطالباتنا ..ما الإشكال ؟

-إن إشكالية التحصيل العلمي في جامعاتنا ليست وليدة اليوم بل هي نتيجة حتمية لسياسة انتهجتها الدولة الجزائرية منذ تبنيها الخيار الاشتراكي، والقائمة على اعتبارات عدّة أهمها الشعبوية؛ وذلك منذ أن قررت أن تعطي لكل أبناء الوطن الفرصة ذاتها في الالتحاق بالجامعة، باسم مساواة أيديولوجية طوباوية، ومع مرور الزمن انغمست هذه السياسة في الانتصار للكم على حساب النوع، فكان أن وصل بنا الأمر، في العلوم الإنسانية والآداب واللغات، أن نضطر لاستيعاب كل من لم يسعفه الحظ في التسجيل في العلوم الأخرى، وحصيلة ذلك أعداد مهولة من الطلبة في مرحلة التدرج، تتقلص قليلا في مرحلة ما بعد التدرج لنصل في الماستر مثلا، إلى أفواج كثيرة بأعداد تجعل من المحاضرة رجع صدى مفرغ من أي محتوى علمي، ومن الأعمال الموجهة استنساخا لبحوث من غوغل، تسوى بها وضعيات طلبة يلحون على التخرج بأي ثمن. هم ذاتهم من سنسلمهم أبناءنا لتعليمهم، وهم ذاتهم من سينخرط في إعداد رسالة دكتوراه (ساندويتش) ليصبح أستاذا جامعيا. فكيف لنا الحديث عن تحصيل علمي؟ ما لم تتحول الجامعة إلى فضاء للنخبة بشروط متشددة تبدأ بمعدلات البكالوريا  وتنتهي بالقيمة العلمية المضافة لرسائل الدكتوراه، مرورا بالانتقاء الصارم لطلبة الماستر، فإننا لن نُخرِج الجامعة عن كونها محضنا لأطفال كبار.

3– نتحدث أيضا عن البحث العلمي وأمواجه تنحسر حينا بعد حين ..كما يرى ذلك كثير من الباحثين .ماذا تقول أنت؟

-إن البحث العلمي هو الآخر لم يكن  ليسلم من المرض الذي أصاب مؤسسات الدولة الجزائرية والذي جعل من الاهتمام بالهياكل معيار النجاح، فراحت الوزارة الوصية تسعى حثيثا لاستنبات مخابر البحث وإغداق أموال طائلة عليها، خاصة في عهد البحبوحة المالية، لتزين بها حصيلتها، وانخرط الأساتذة الباحثون في إنتاج كم هائل من البحوث والدراسات يتراوح بين جدية وعمق وبين تجميع وتصفيف لما هو ملقى على قارعة الطريق من معرفة، وذلك دون أدنى تحر لجدوى هذا الجهد من حيث إضافته الوطنية في حلحلة الوضعيات المسدودة في مجالات اقتصادية واجتماعية وتقنية، ولذلك أسباب أخرى قد نعود لبسطها مستقبلا، ولا من حيث إضافته العالمية، إلا ما كان من انخراط في بحوث ودراسات تخدم حاجات العالم الآخر، كما هو شأن مشروع البحث الأوربي “آفاق 2020” والذي خصص له الاتحاد الأوربي ملبغ 80 مليار أورو، والذي تسابقت إلى المشاركة فيه جامعات بلدان المغرب العربي، من بينها الجزائر. صحيح أن مثل هذه المشاركة من شأنها أن تسهم في اكتساب خبرة نحن في أشد الحاجة إليها لتطوير بحث يخدم الوطن، لكن أن نتباهى بتحسين صورة البحث الجزائري بنشر دراسات في مجلات عالمية مع غياب وعي يجعل من هذا الجهد لبنة في صرح تنمية هذا الوطن، تحكمه نظرة مستقبلية تبشر بولادة مجتمع جديد، فإن الأمر لا يخرج عن نظرة شكلية هي ذاتها التي تتباهى بعدد رسائل الدكتوراه المناقشة دون وقوف على جدواها العملية ولا حتى أمانتها العلمية، في أحايين كثيرة، إذ غالبا ما تتم مناقشتها بتواطؤ “العصابة” المنتقاة من شلة المشرف والتي لا تتجاوز في مناقشتها الرسالة حد المقدمة، ناهيك عن المقالات العلمية التي تنشر، في أحيان كثيرة، لاسعيا لإضفاء الجديد على مسار البحث العلمي، ولكن للأسف، لتسوية وضعيات مهنية بحتة. وهو ما يتجلى بشكل مأساوي فيما ندعوه بالتأهيل الجامعي والذي في الجامعات التي تمتلك تقاليد علمية محترمة، يكون تتويجا  لمسار بحثي يمتد لعشر سنوات من تاريخ مناقشة الدكتوراه، بينما يتلقص في نظامنا الجامعي إلى سنة بعد المناقشة، مع إثبات مقال يتيم تجد لجنة المناقشة نفسها أمامه عاجزة عن إبداء رأي عن مسار بحثي لا وجود له أصلا، وغير مؤهلة لأن تحكم على مقال خضع لخبرة سابقة، وإن اعتراه ضعف معرفي أو خلل منهجي، فتضحى المناقشة مسرحية سمجة تكلل بتأهيل “الباحث”. ناهيك عن الفساد الذي تسلل إلى جنبات الجامعة منذ تسعينيات القرن الماضي، والذي تغول مع منظومة الحكم الجديدة؛ لتصبح الجامعة مرتعا لكل التجاوزات التي طالت كل مفاصل التدريس والبحث، لتفتح الباب على مصراعيه فيعتلي من لا كفاءة له منصة التدريس ويدّعي من لا شأن له بالبحث إنجازا مستلا من مصدر غير معلن. مثل هذا التشخيص المأساوي لا ينفي وجود طاقات أكاديمية وإنجازات علمية، إلا أن غياب مشروع نهضة متكامل ينخرط فيه كل المجتمع يجعل من هذه الطاقات طيورا تغني خارج السرب.

4– صناعة الوعي أهم وظائف الجامعة ـ افتراضا ـ كيف تقرأ صورة الواقع والوعي القائم اليوم لدى قطاعات عريضة ومنها الشباب وطلاب الجامعات ؟

-لم تعد الجامعة فضاء لصناعة الوعي على ما كانت عليه قبل العشرية السوداء؛ حيث فتحت فضاءاتها لشحذ الطالب بوعي حضاري يرنو إلى ولادة مجتمع جديد، في خضم صراع أيديولوجي شديد يصل في بعض الأحيان إلى العنف، على ما شاب ذلك من طوباوية أفزعت الأعداء فتربصوا به حتى أوقعوه في شرك حلمه، وجروه إلى العنف جرا، فكان أن انهار الحلم وانهار معه الوعي بالتغيير الذي أصبح مرادفا للعبث حين استبيحت أقدس أشياء الأرض ألا وهي النفس الإنسانية باسم أقدس أشياء السماء ألا وهو الدين، وجاءت عقب هذا الخراب القيمي أجيال بلا حلم، كل همها كيف لها أن تتحرر من كوابيس ماض مثقل بالدم، ولولا رحمة من الله، جعلت من العولمة، على علاتها، بوابة الأجيال الجديدة لبعث وعي جديد يسعى لترسيخ قيم العدل والحرية والمواطنة، ضمن المبادئ النوفمبرية، لظللنا نتجرع حسرات وعي زائف يدعي الحداثة وهو أبعد ما يكون عنها؛ حداثة تختصر في خرق المحرم دون أدنى مشروع مجتمعي يستلهم قيم التنوير الغربي كالمساواة والعدل والتداول على السلطة والمواطنة…

5- دعنا نكون أقرب إلى الصراحة ..ما رأيك في الحراك الوطني الشعبي السلمي حتى الآن؟

-الحراك تجل لهذا الوعي الجديد الذي اختار السلمية بعد تجربة مريرة مع العنف، واختار قيما إنسانية بدل الطرح الأيديولوجي المغلق، واختار البعد الجماهيري بعد أن نبذ الأبراج العاجية النخبوية، حراك حررنا من الشرنقات الأيديولوجية التي أحطنا بها أسوارنا الثقافية يوم كان الصراع الأيديولوجي على أشده، ويوم كان لزاما على تلك الثلة من الملتزمين أن تتمترس خلف رؤى هي وليدة سياق قام على الفعل ورد الفعل الفكري. فبعد انهيار جدار برلين والسعي الحثيث للعولمة في محو براديغم الحدود، على ما في ذلك من خطر تنميط الثقافات، انبعث وعي جديد حمل عبأه جيل جديد من الشباب يرنو إلى تحقيق قيم إنسانية وفق رؤية باديسية ذات أبعاد حضارية منفتحة على تجارب التنوير الغربي، متخلصة من عقدة التعاطي مع الآخر المختلف، متجاوزة الصراع الوهمي بين قيم الحداثة والأصالة الذي أرادت أن تفرضه النخبة المتغربة، حتى لا أقول الحداثية. بالمناسبة، إن الحداثة لم تعد حكرا على من يستبيح مواضعات المجتمع بل هي فضاء يستدعي الراهن ليسائله سعيا نحو الأفضل، ولعمري ذلك هو ديدن من وقف نفسه من أجل تغيير حضاري يحقق لهذه الأمة إنسانيتها. إنه مشروع يتجاوز الأوهام الأيديولوجية التي تحصر التغيير في بعده السياسي السطحي فيما كان يدعى بإقامة الدولة الإسلامية، ليصبح تغييرا في الأنفس ينطوي على تغيير في الآفاق، تغييرا في أسلوب التفكير وأنماط السلوك، أي تغييرا حضاري بامتياز. الحقيقة إن هذا الحراك الذي تدثر بدثار المطالب السياسية هو في عمقه فرصة تاريخية لإحداث تغيير في الأنفس والآفاق، يبشر بولادة مجتمع جديد قد يستغرق مخاضه أجيالا.

6- ولمَ هذا التباطؤ في الاستجابة لمطالب الشعب في تقديرك كمتابع ومهتمّ ؟

-أخوف ما أخاف من هذا التباطؤ أن يتعثر مشروع هذا التغيير ويستدرج في معارك دون كيشوتية ترفع راية الهوية والهوية المضادة، لنعود إلى المربع الأول، مربع الفعل ورد الفعل، ساعتها نكون قد أضعنا على أنفسنا فرصة تاريخية قد لا تعود إلا بعد زمن طويل. إن  هذا التباطؤ، وما يحكمه من حسابات سياسوية من أطراف متعددة، يجب ألا يستنزف طاقاتنا الفكرية ومؤهلاتنا الاجتماعية، لأن مشروع نهضتنا أكبر من أن يحده توجه نحو التغيير السياسي، مع ما يمكن أن يشكله ذلك من انعطافة كبرى تهيئ الأرضية لهذا المشروع، لكن لنكن واقعيين، فإن تتغير الذهنيات بين عشية وضحاها أمر تمجه سنة الله في تغيير الأنفس والآفاق، علينا ألا ننسى أن نخبنا، بكل أطيافها هي أبعد من ثقافة الديمقراطية والتداول على السلطة؛ فجل رؤساء التيارات والأحزاب مهيمنون على مقاليد التسيير مدى الحياة، وما إن يقضي الله أمره حتى تنفجر تلك التنظيمات إلى أشلاء بسبب من بكتيريا الاستبداد التي يورثها الزعيم لعصبته، فأنى لهذه النخبة أن تضمن تداولا سلسلا على السلطة؟ ومثل هذا الأمر ينسحب على عامة الشعب الذي وإن ظل يرفع شعار الديمقراطية والحرية والعدالة، إلا أنه بحكم انغماسه في بوتقة منظومة قيم استبدادية، فهو يظل أسيرا في خياراته السياسية لذهنية العائلة والعشيرة والعرش والقبيلة والجهة وغيرها من المعايير التي هي أبعد ما تكون عن شعارات التغيير، ناهيك عن أنظمة سياسية ولدت من رحم السلاح وترعرعت، عقودا طويلة، في كنف الهيمنة المطلقة للعسكر، كيف لنا أن نتصور تخليها عن السلطة بهذه البساطة والسرعة التي يحلم بها شباب التغيير، يجب تغيير معادلة “المرافقة”، بأن يتولى الحراك “مرافقة” هذه المؤسسة في تحولها التدريجي نحو انحسار دورها فيما حددّه الدستور. فضلا عن إرادة دولية شرسة في كسر كل محاولة انعتاق من الهيمنة الغربية، باستعمال كل الوسائل البشعة بما فيها تأجيج النعرات الجهوية والطائفية والزج بالبلد في دوامة العنف الأهلي. كل هذا وغيره يدفعني إلى التحذير من الدفع بكل الطاقات في المضمار السياسي مع ما يحمله ذلك من مجازفة تعريض أي مشروع تغيير حضاري إلى الانهيار، كما حدث في تجربة التسعينيات. فالمؤمن بالتغيير الحضاري لا يلدغ من الجحر مرتين. وقبل وبعد كل ذلك، فإن نهضتنا الحضارية لا يمكن أن تتماهى كغاية وجودية مع تغيير سياسي يظل، على أهميته، وسيلة منفتحة على كل الاجتهادات، ومحكومة بإكراهات يجب أخذها بعين الحسبان، بحيث لا يستغرقنا الهم السياسي فتضيع بوصلتنا المحددة بتربية الإنسان، والتي تظل الغاية النهائية لكل مشروع تغيير يبدأ بالإنسان وينتهي بالإنسان.

وعليه، فمهما كانت مآلات هذا الحراك، فإن معولنا على شباب قد امتلك وعيا عالميا بضرورة الانخراط في مشروع التعارف الإنساني الذي من شأنه أن يمد تجربتنا في التغيير الحضاري بكثير من الروحانية والعقلانية والنسبية والواقعية والإنسانية قبل كل شيء.

7– أنت أحد المهتمين الأوائل بالفنون والمسرح في حركة الحياة والحركة الثقافية …أين وصلت؟

-إن المسرح الجزائري اليوم يبحث عن مبررات أخرى لوجوده بعد أن أصيب بانتكاسة حطمت مساره الفني والفكري الذي بدأه بالسعي إلى التأسيس لهوية وطنية تتوافق ومتطلبات مرحلة الاستقلال وبناء الدولة ليتحول في سبعينيات القرن الماضي إلى وسيلة دعاية أيديولوجية لخيار تبنته الدولة الجزائرية، فكان أن انبرى لهذه المهمة نخبة من المثقفين اليساريين الذين راحوا يبشرون بالثورات الثقافية والصناعية والزراعية، في سعي حثيث إلى استئصال جذور ما كان يدعى بـ” الإقطاع”. ثم أعقبتها صحوة إسلامية، في الثمانينيات، راحت تبحث لها عن موطئ قدم في هذا الزخم الإيديولوجي، يحكمها منطق التأسيس للهوية الجديدة من منطلق الضدية، فجاء المسرح “الإسلامي” ليطرح نفسه بديلا عما أضحى في عرفه نكوصا عن الثوابت وانتهاكا للمقدس، وتولد من جراء هذا الطرح حالة من التدافع الثقافي، على ما اعتراها من حدة في المواجهة، إلا أنها كانت من أغزر وأفضل الفترات التي عرفها المسرح الجزائري؛ حيث تواجه مشروع مجتمع، يحمل كل منهما رؤية تقف على خط التناقض، فكان الجدال مثمرا والحوار المتشجن في كثير من الأحيان فعالا وحيا يعبر عن تطلع مجتمع إلى بناء ذاته والتأسيس لنهضة، وإن اختلفت المنطلقات الفكرية. ولقد وصل هذا الوافد الجديد على الساحة المسرحية إلى حد التغلغل في الأوساط الشعبية والتفاعل معها في مسار حركي نحو بلورة مشروع مجتمع جديد يتبنى منظومة أخلاقية وفكرية أصيلة، إلا أن استدراج أرباب هذا المشروع نحو هاوية العنف في التسعينيات أصابت هذه الحركة المسرحية، والمشروع التغييري برمته، بالذهول ولم يعد هناك من مبرر ثقافي لهذا المسرح في دعوته إلى قداسة قيم أضحت شعارا للفتك بما قدس الله على الأرض، ألا وهي النفس الإنسانية. فانتابت المشروع حالة من العثب واللامعقول واللاجدوى، انتهت بأصحابه إلى وقوف العاجز أمام هول الدمار والخراب الذي أتى ليس فقط على الإنسان، ولكن على مشروع نهضة أجهضت قبل أن يشتد عودها.

أما المسرح “البروليتاري” فلم يستطع أن يصمد أمام التغيرات التاريخية التي أصابت المعسكر الشرقي والتي بسقوط جدار برلين أضحت عنوانا لنهاية تاريخ الحلم الاشتراكي وانهيار منظومة القيم المادية، فلم يكن منه، وهو الذي لم يعد لديه ما يمني به الوعي الجمعي، إلا أن يبحث عن مسوغات وجود جديدة، يصنع هويتها من تقابله بخصم البارحة، في معركة فكرية وسخة يستند فيها على تلازم مفتعل بين “الإسلام” و”العنف” وفرته له العشرية السوداء، ليقفز عبرها إلى الادعاء بتمثيله للمشروع التنويري في مواجهة المشروع الظلامي والذي لم يخرج للأسف عن دائرة خرق الممنوع، واستباحة “المحرمات”، وذلك بعرض مشاهد ساخنة وحوارات بذيئة وتطاول على المقدس، وكل ذلك يتم باسم حداثة هم أبعد ما يكونون عن جوهرها، مع ما صاحب ذلك من فساد مالي أضحى من خلاله المسرح مرتعا لكل الصفقات المشبوهة والتي تصرف فيها مبالغ مهولة على عروض مسرحية قد ترى النور لعرض واحد وأخرى تظل حبيسة الأدراج. وفي سياق انهيار المنظومات الأيديولوجية، لم تجد الأجيال المسرحية الجديدة من إبداع سوى اسنتساخ مغامرات تجريبية عالمية بحثا عن أشكال جديدة من العرض مع غياب شبه كلي لرؤية فكرية متكاملة.

8– اشتغلت على الترجمة وقراءة الفكر الغربي ..هل يمكن أن نعرف خلاصة علمية مفيدة لذلك ؟

إن المتأمل في تصاعد موجة النزعات العنصرية ذات الخلفيات المسيحية المتطرفة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ووصول بعضها من اليمين المتطرف إلى سدة الحكم كما هو شأن كل من النمسا وإيطاليا والمجر وبولونيا قد يكتفي في تحليله للظاهرة بنتائجها ومدى انعكاسها سلبا على الإسلام فيما أضحى يدعى بـ”الإسلاموفوبيا”، إلا أن رؤية من الداخل تبرز بشكل جلي أزمة الهوية التي يعشيها النموذج التنويري الغربي والتي بدأت بوادرها بفقدان الثقة في القيم الحداثية إثر الحربين العالميتين، وامتدت عبر الحركات السياسية والثقافية العدمية التي توالت على مدار عقود خلت. الأمر الذي يفسر، على مستوى مراكز البحث والمخابر الجامعية، عودة الجدل حول الهوية إلى الواجهة العلمية؛ إذ أصبحت في قلب جل المحاولات لتحليل التحولات الاجتماعية الحالية في الغرب. الحقيقة أن أهم ما يبرر التوجه نحو الهوية كوعاء معرفي لاستيعاب التحولات الحضارية في الغرب هو، كما ذكرت آنفا، ظهور بوادر وصول فلسفة التنوير إلى طريق مسدود في ابتعاث الفرد كوحدة وجودية تتأسس عليها المجتمعات الحديثة تحت فضاء لائكي ديمقراطي، الأمر الذي اضطر هذا الفرد إما إلى البحث عن هوية تستجيب لحاجاته الوجودية خارج إطار الثقافة الغربية، أو التشبث بالموروث المسيحي بكل تشنجاته التاريخية وحمولته الأسطورية.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى تحول موضوع الهوية إلى رهانات أيديولوجية تتجاذبه حركات اجتماعية بين تبني الهوية والهويات المتعددة وبين ضياعها. ومع تعقد المشاكل الاجتماعية والسياسية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، ظهر ما أصبح يدعى بـ”أزمة الهوية” للتعبير عن الخلل الذي انتاب علاقات الفرد بالمجتمع وخاصة مع تنامي موجات الاحتجاج ضد النظام السياسي والاجتماعي التي تحولت في فرنسا إلى ثورة طلابية عام 1968 رفعت شعار “يحظر الحظر” كمعادل لهدم كل مرجعية قيمية جماعية تحكم الفرد، وتحولت في الولايات المتحدة إلى احتجاج على التمييز العنصري المتخفي وراء دعاوى المساواة بين مواطني الدولة، وما جرّه من دعوة إلى المفاصلة بين المجتمع الأبيض والمجتمع الأسود مثلما ذهب إلى ذلك مالكوم إكس عارضتها أخرى تنادي بالمساواة تحت مظلة المواطنة التي تزعمها مارتن لوثر كينغ. ثم ما لبث أن اتخذ مفهوم الهوية مسارات دلالية جديدة في سبعينيات القرن الماضي مع ما رافق ذلك من حركات هيبية تنادي بتحرير الفرد من قيود المنظومة الاجتماعية والسياسية بالوقوف ضد الحرب على الفيتنام، أو الانخراط في مغامرات روحية تجاوزت الإطار التقليدي للموروث المسيحي لترتمي في أحضان الديانات الشرقية كالبوذية والهندوسية والإسلام، وما تفرع عنها من رياضات روحية كالزين واليوغا.

وإن نظرة خاطفة على تاريخ مفهوم الهوية في الثقافة الأوربية، تحيلنا على أن هذا المفهوم قد تحول، في القرون الوسطى، إلى تعبير عن الولاء للجماعة وإظهار الانضباط لمنظومتها القيمية المتمثلة في الإرث الكنسي، ثم ما لبث، مع التجريبيين والموسوعيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أن بدأ ينزع نحو إعطاء الفرد الحرية في تحديد المفهوم. في القرن العشرين، أثبتت التجربة الأوربية وما أنتجته من حربين عالميتين مدمرتين، محدودية هذا الحلم الفردي القائم على المواطنة الكونية والعقلانية، ليتولد عن ذلك حزمة من الأزمات الحضارية ذات الأبعاد الإثنية والدينية داخل المجتمع الغربي. وهذا لا يعني أن الغرب قد أصيب بالشلل، كما يتوهم كسالى التغيير الحضاري الذين ينتظرون سقوط هذا الغرب حتى يتقدموا صفوف الإنسانية ليعرضوا بديلهم، بل الأمر على العكس من ذلك، فإن ثقافة تعودت على النقد الذاتي وعلى تجاوز انسداداتها بالبحث عن مخارج فلسفية وعلمية لا يمكنها أن تؤول إلى الزوال.

وهذا الذي تسعى إليه الثقافة الغربية من خلال مراجعة مفاهيمها التنويرية من مواطنة وجمهورية وعلمانية في ضوء التغيرات البنيوية التي أحدثتها حركة التاريخ المعاصر من خلال إعادة رسم خريطة جديدة للمجتمعات الغربية أضحى الإسلام أحد مكوناتها ومن خلال الانفتاح على كل الخيارات الثقافية التي فرضتها العولمة بسيعها إلى طي مسافات الزمان والمكان، ولعل الإسلام سيكون إحدى سبلها لتجاوز هذا الانسداد القيمي، فلا داعي للتعجب، حين نعلم أن بريطانيا لم تتردد في التوسع في أدوات التمويل الإسلامي، كأحد المخارج المقترحة لتفادي الوقوع مرة أخرى بين براثن أزمة مالية عالمية كالتي اجتاحت العالم عام 2008.

ومثل هذا الموقف يدحض أضغاث أحلام ثلة من مثقفينا ممن كرّسوا جهودهم من أجل قضية استعادة الهوية الأصيلة، لا ترى في مثل هذا الموضوع إلا تأكيداً لوهم ساير رحلة العودة إلى الذات، والمتمثل في فكرة انهيار الحضارة الغربية، المعلنة عن قيام الشرق الإسلامي، وكأن ارتباط نهاية الغرب بنهضة الشرق أصبح حتمية تاريخية، لابد لها من أن تتحقق، وما علينا إلا الانتظار.

10-كيف تبدو لك العلاقة بيننا كمسلمين وبين الغرب (نخبة وشعوبا) ..وهل يمكن أن يأتي الوقت الذي تتجاوز فيه الشعوب نخبها المؤدلجة المحكومة بعامل ” الهيمنة” ..؟

-إن علاقتنا بالغرب للأسف سادتها نظرة اختزالية محكومة بثقل التاريخ الكولونيالي الذي اضطرنا إلى اختصار هذه العلاقة في بعدها الصراعي بحيث لا نجد في مواجهتنا سوى غرب محكوم بمركزية ثقافية استعلائية لا هم لها سوى إبقاء المستعمر (بفتح الميم) في براثن الهيمنة الغربية بوساطة نخبة مسلوبة حضاريا، جثمت على مقدرات البلاد وحالت دون تحقيق نهضة حضارية تحررنا من ربق الاستعمار الحديث.

مثل هذه النظرة على واقعيتها، إلا أنها ضيقت وسعا ووضعت كل الغرب على تنوع مشاربه الفكرية والأيديولوجية في سلة واحدة، وحتمت علينا أن ننظر إلى هذا الغرب عبر المنظار الذي تفرضه علينا النخبة المتغربة والذي يدفعنا إلى استعداء أصوات غربية مختلفة الرؤى (مسيحية، يهودية، بوذية، إلحادية، يسارية، مناهضة للعولمة، جمهورية، لبيرالية، فوضوية، عدمية…)  تحمل هم قضايانا وترنو إلى علاقة حوار يحفظ للآخر حق الاختلاف، وتستنكر عولمة تسعى إلى تغريب العالم الآخر باسم قيم الحداثة ذات النزعة الكونية. الحقيقة

يجب ألا يغيب عن أذهاننا بروز أصوات فكرية من الغرب تدعو إلى توسيع الخيارات فيما يتعلق بطبيعة العلاقة مع الآخر الإسلامي متجاوزة فكرة الصراع إلى فكرة الحوار الذي يستوجب مراجعة جريئة لمفاهيم الهوية والحداثة.

إن اعتماد الخطاب الغربي في بعض تجلياته بالمركزية الثقافية في تقديمه للإسلام إلى الإنسان الغربي العادي على أقلام بأسماء “إسلامية” متغربة قد فوّت عليه فرصة استيعاب ما يروج في الفضاء الإسلامي من ثورات فكرية تقودها أجيال جديدة ممن تشبع بروح الأصالة وانفتح على ثقافة الآخر، فانطلق في عملية تجديد للفكر الإسلامي تستمد من مبادئ الإسلام العامة ما يستجيب لروح العصر دون أدنى عقدة نقص أمام الآخر الغربي.

إن الخطاب الفكري الغربي تجاه الإسلام ليس واحدا، ولا يمكننا أن نتغاظى عن طرح منفتح على الإسلام، وإن بدا خافت الصوت، وذلك بحجة أن الخطاب الغالب هو خطاب عدائي استفزازي يجعل وبشكل آلي من الإسلام مرادفا للعنف. فحصرنا لظاهرة التشوه الثقافي في تتبعنا وإحصائنا أخطاء الغرب في تقويمه للإسلام سيضطرنا إلى اعتماد نظرة قاصرة تنفتح على جانب ضيق من الثقافة الغربية وتحرمنا من التعامل مع هذه الثقافة انطلاقا من نظرة متفاعلة وإيجابية ترصد التحولات الطارئة على تعامل الغرب مع الآخر الشرقي.

في الأخير، إن نظرة التمركز الحضاري التي نعيبها على الغرب ليست سمة دائمة للثقافة الغربية وملازمة لها ملازمة مطلقة تنبع من طبيعتها العقلانية، وإنما هي إفرازات عوامل تاريخية أكسبت الغرب قوة أضفت على إرادته في السيطرة شرعية حضارية. بمعنى أن هذه النظرة قد تتزحزح عن طبيعتها البديهية لتتحول إلى تساؤل مؤرق تترجمه كتابات نخبة مثقفة وتفاعل قطاعات كبيرة من الرأي العام الغربي مع قضايا الشرق المغلوب على أمره. ثم إن إصرارنا على اتهام الغرب بالنظرة المركزية للعالم مع إعراض مطلق عن كل المتغيرات الطارئة على مسار الفكر الغربي في علاقته بالآخر قد يخفي بين طيات خطابنا الثقافي رغبة انتقامية في تحطيم هذا الآخر لإعادة الاعتبار للأنا الجريحة وذلك من خلال رد فعل ثقافي ظاهره كشف سؤة الغرب وباطنه إرادة بناء ذات نرجسية يتمحور حولها الوجود.

 

  • كلمة مفيدة عن العولمة في المجال الثقافي والفكري ..؟

الحقيقة، إن مصطلح العولمة ما زال تعبيراً غائماً يكتنفه كثير من الغموض إن لم نقل التناقض، إنه يعني فيما يعنيه ظاهرة تتداخل فيها أمور الإقتصاد والسياسة والثقافة والإجتماع والسلوك، إنها نسق ذو أبعاد عامة تشمل المال والتسويق والمبادلات السياسية والفكر والأيديولوجيا، ترمي إلى إزالة الحواجز والحدود أمام حركة الإنسان أفرزتها الثورة المعلوماتية وما رافقها من تطور في مجالي الإتصال والإعلام. وإذا كان هناك من خاصية أساسية تتميز بها العولمة على الصعيد النظري على الأقل فهي الشمولية الكونية، إلا أننا وبإلقائنا  نظرة على الواقع الدولي ندرك دون عناء يذكرأن العولمة قد انحصر نطاق تأثيرها على شعوب دون أخرى وشرائح اجتماعية دون أخرى، فأن نستعمل الأنترنت في كل من الجزائر أو القاهرة أو باريس أو واشنطن أو دكار لا يعني أن حركة رؤوس الأموال وتطور التجارة العالمية سوف تنعكس خيراتها على مواطني هذه الدول على نطاق واسع يشمل كل أفراد الوطن، الحقيقة أن فئة قليلة بإمكانها أن تساهم في العولمة بشكل يعود عليها بالثراء، دون أن تكون لها القدرة على التأثير في مسار العولمة وتوجهاتها الإقتصادية والثقافية وسواء أتعلق الأمر بالشمال أم بالجنوب، إذ ذلك محصور في  المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومجموعة الثمانية (قبل إقصاء روسيا) وغيرها التي تتيح لفئات دون أخرى ولشعوب دون أخرى استهلاك منتجات العولمة بينما تظل أغلبية البشرية مهمشة، تتخبط في مشاكل الحياة اليومية من بطالة وأزمة سكن وأمراض…

والعامل الآخر هو أن للعولمة مجالا جيو- سياسيا تنطلق منه؛ إنه الغرب الذي هو في طور البحث عن هوية جماعية تتيح له تسويق نظرته المركزية للعالم التي تلبس لبوس الخير على المتفوق بينما ترمي دون عقدة ذنب الغير بتهمة الشر فقط لأنه يرفض أن يكون غير ذاته.

وفي هذا المقام، يجدر بي أن أشير إلى قضية كثيرا ما راهنت عليها العولمة في استراتجيتها؛ ألا وهي قضية الهوية والتي انقسم حولها المفكرون؛  إذ بينما يدعو فريق إلى كبت الخصوصية الثقافية استسلاما لحتمية تاريخية لا فكاك منها، مؤكدا أن العولمة جاءت لتعلن عن نهاية التاريخ وسيادة النموذج الغربي الديموقرطي، وهي فرصة تاريخية تمنح للشعوب غير الغربية لتتحرر من كل الهيمنات، يدعو آخر إلى العض على الهوية بالنواجذ وجعلها درعا لمواجهة الآخر الذي لابد أن يكون معادياً فقط لأنه يختلف عنا.

إن تتبع المواقف المتناقضة التي أفرزها  وهم خطر اندثار هوية الأنا وهوية الآخر بفعل عولمة ترمي إلى إنتاج إنسان جديد دون ذاكرة، يحيلنا على عولمة تهتم بالدرجة الأولى بميزان القوى الذي تفرزه الصراعات العالمية بما فيها الصراعات ذات الطابع الهوياتي، فهي لا تلتفت إلى قضية الهوية إلا بما يعود عليها بالنفع؛ فقد تندفع إلى محو كل ما له أثر لهوية ما في ظرف معين إذا ما كان ذلك يعيق أو يهدد مصالحها وقد تتوافق تلك المصالح مع حالة الإستقرار في حيز جغرافي يضمنه تجانس شعب والتفافه حول هوية معينة، وقد تكون الهوية  والحفاظ عليها وما يمكن أن يشكله الآخر من خطر حقيقي أو وهمي على وجودها حطبا تستغله العولمة لإشعال حروب طائفية وعرقية في حيز معين لخدمة مصالحها وقد تضطر إلى تعبئة الرأي العام تحت راية شرعية الدفاع عن الوجود الهوياتي لتدمير قوى محلية تقف حجر عثرة دون تحقيق مصالحها، وقد تضطر إلى فبركة هوية واختلاقها لتكون قاعدة انطلاق لمواجهة الآخر في حرب مقدسة.

14- الإعلام ..يسيطر ..يعيد صياغة العقول ..ماذا تقول للقراء في هذا الشأن ؟

-مرة أخرى نحمد للعولمة كسرها احتكار المعلومة من طرف أقلية تعودت على صناعة الرأي العام وفق مصالحها؛ فإذا بالأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تعطي لكل مواطن حق تقديم المعلومة ساعة حدوثها وعلى المباشر بحيث يمكن لكل مواطن في الكرة الأرضية التقاطها، حتى أصبحت وسائل الإعلام التقليدية عالة على هذه الوسائط، لكن ذلك، من جهة أخرى، فتح الباب على مصراعيه للفوضى الإعلامية بحيث تحول المواطن إلى هدف ما أضحى يدعى بالذباب الالكتروني الذي يسعى بكل الوسائل الوقحة لتوجيه الرأي العام بذلك الكم الهائل من المعلومات التي يتداخل فيها الصحيح بالمغلوط. الأمر الذي يؤدي حالة من الفوضى في الوعي. و ما نشهده اليوم لا علاقة له بتلك الدعاية المنظمة للخبر والذي تولت صناعته وسائل إعلام كلاسيكية بإيعاز من أجهزة الدولة أو أرباب المال، إنها حملة للترويج للــ”لا خبر” الذي من شأنه أن يشتت وعي المواطن ليحوله إلى مجرد مستهلك لمنتوج كغيره من المنتوجات التي تروج لها الدعاية والإشهار. ولذلك علينا أن نتحلى بكثير من الحيطة والحذر أثناء التعامل مع الخبر القادم إلينا من الـ”لا مصدر”. إنه صراع من نوع جديد يقتضي وعيا جديدا مستوعبا لتطورات العصر، وهي فرصة لم تكن متاحة للأصوات المهمشة لتبدي رأيها وتسهم في بلورة وعي يبدأ بالخبر و ينتهي ببعث حالة من الوعي في تفكيك المناورات الإعلامية وفضح أهدافها.

15- كلمة أخيرة للقراء

-إن مشروع تغيير الإنسان أكبر من الإنسان في ذاته، وأكبر من أن يستوعبه عمر إنسان، لكن ذلك لن يحول دون أن يضع كل منا لبنته في هذا الصرح العظيم، وأن يرتمي، بعد ذلك، في أحضان الرحيل وقد اطمأن إلى أن المسيرة متواصلة عبر أجيال جديدة تحمل الهم ذاته لكن برؤية مختلفة. والحمد لله ظهرت أجيال جديدة بوعي جديد استلمت الراية وهي اليوم في طريقها إلى نهضة

حضارية تتجاوز اليوتوبيا الساذجة التي حكمت التجارب السابقة. وتلك سنة الله في خلقه.

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com