شارع محمد الخامس…في فحص باب عَزُّونْ…/ فوزي سعد الله
كان جزءا لا يتجزأ من تلك الحقول والجنان المتصاعدة المتسلقة للروابي كثيفة الأشجار المطلة على خليج الجزائر الجميل المترامي الأطراف من تامنفوست إلى “القصبة” وفحص باب الوادي ومرتفعات الزّغَارَة… هكذا كان خلال الحقبة العثمانية من تاريخ الجزائر… الجزائر المدينة والبلاد معًا…
العهد العثماني
كان امتدادا طبيعيا لريف “تِيلِيمْلِي” (Télémly) أو بالأحرى “ثَالَة أُومْلِي” الذي قد يكون اسمه الأصلي حسب مصادر قبل تشويهه من قِبل المحتلين وتشبُّثِنا بالمُشوَّه رغم الاستقلال منذ 57 سنة، وكان هذا الريف مَعْبَرًا لقنوات المياه الصالحة للشرب التي ترتوي منها المدينة التاريخية، مدينة سيدي الثعالبي عبد الرحمن، وما جاورها والتي أنجزها على نمط أنظمة الرّي التي اشتهر بها “الفردوس المفقود” المهندسُ المعلَّمْ موسى الثغري الأندلسي ابتداءً من 1609/1610م خلال وفود موجة كبيرة على البلاد من المطرودين الموريسكيين، أحفاد الأندلسيين، من إسبانيا. وهكذا، كان بخضرته ونضارته عند أقدام روابي تيليملي جزءا من ذلك المنظر الساحر جنوب مدينة رياس البحر والمجاهدين الذي ما كان ممكنا للفنانين التشكيليين الأوروبيين الذين زاروها آنذاك الاستغناء عنه في لوحاتهم الجميلة التاريخية التي تشهد على أن المؤرخ الفرنسي الكبير فرنان بروديل (Fernand Braudel) لم يكذب ولم يبالغ حينما ألح في بحوثه المعروفة على أن العاصمة الجزائرية من نهاية القرن 16م إلى غاية القرن 18م على الأقل كانت إحدى أجمل وأغنى وأقوى مدن البحر الأبيض المتوسط تُنافِس حتى إسطنبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية، فما بالك بمرسيليا وجِنوة والبندقية ومالطا وغيرها…
ومثلما تقول الأغنية الشعبية العتيقة “لا حال يدوم”، التي كانت تُغنَّى وتُعزَف في “البهجة” “المحروسة بالله” كلّما سقط أو قُتل حاكم من باشاواتنا وداياتنا وحل آخر محله، فإن حال هذه البقعة من فحصنا، وتحديدًا “فحص باب عزُّون”، لم يُكتب له أن يطول أكثر مما فات بمجرد ما وطأت أقدام المحتلين الفرنسيين البلاد.
عهد الاحتلال الفرنسي
وهكذا، مثلما دمّروا “القصبة” وخرّبوها، ومثلما استولوا على فحص باب عزون ومن ضِمْنه “حقول اللّفت” وحوّلوها إلى ثكنة عسكرية مؤقتة لسنوات طويلة ثم بنوا محلها في نهاية سنوات 1880م الجامعة المركزية (Les Facultés) وثانوية خير الدين بربروس (Delacroix)، أزالوا أيضًا من الوجود الريف المحاذي لهذه الحقول وبنوا عليه شارع الاستضافة الطيبة (Boulevard Bon Acceuil)، كما كان يُقال في أوساطهم، وعلى طرفيه أنجزوا عددا متواضعًا من البنايات على النمط الأوروبي لِسكّانٍ جيء بهم من مختلف الطبقات البائسة التي لم تجد لها مكانًا تحت الشمس في مختلف بلدان جنوب أوروبا، لاسيما المالطيين بخرفانهم وماعزهم والماهونيين والإسبان والإيطاليين… وبالتالي، لم يعد بعدها يوجد في هذه البقعة من ريف باب عزون ما يستأهل الرسم في لوحات الفنانين على كثرتهم في الجزائر خلال النصف الثاني من القرن 19م وبدايات القرن 20م…
تخليدًا لذكرى الموسيقار الفرنسي عاشق نوبة “الزّيدان” الأندلسية…
لم يطل الانتظار، فقط بضعة عقود، لتُغيّر إدارة الاحتلال وجه الشارع واسمه حيث أصبح يُطلق عليه اسم شارع “سان سونس” (Saint Saens)، وليس 5 sens مثلما يتصور البعض اليوم. وسان سونس هذا هو كاميل سان سونس (Camille Saint Saens) أحد أبرز رجال الموسيقى الفرنسيين والعالميين في مجال الموسيقى الكلاسيكية قضى سنوات طويلة، متقطعة في الجزائر المحتلة بين النصف الثاني من القرن 19م وسنة وفاته عام 1921م. قضاها، أساسًا، في هذه المدينة التي أحبها واستلهم منها بعض موسيقاه وأجمل أعماله بعد تردده الكثير على مقهى مالاكوف (Malakoff) قرب ساحة الشهداء تحت أقواس شارع باب الوادي للاستماع للشيخ المنمّش عمدة الغناء الأندلسي في المدينة في النصف الثاني من القرن 19م وتلميذه النجيب الكبير محمد بن علي سفنجة وتلاميذهما اللامعين كالشيخ محمد بن التفاحي والشيخ السعيدي وغيرهما… ونعرف أن جوهر أحد أهم وأجمل أعمال سان سونس، صاحب “شمشوم ودليلة” (Samson et Dalila)، الموسيقية وسرّ شهرته هو تضمنها نوبة الزّيدان التي اكتشفها وتعلًمها في مجالس الغناء الأندلسي في مقهى مالاكوف وهي إحدى النوبات الأربع والعشرين المنسوبة، أو تنظيمها على الأقل، للفنان البغدادي/القرطبي زرياب…
في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، أعيدت تهيئة هذا الشارع بعد بناء النفق الجامعي وإزالة بناية أوروبية لاستحداث ساحة موريس أُودان الحالية، مثلما استُبدلتْ بنايات قديمة تعود إلى أواخر القرن 19م بأخرى عصرية وفق مقاييس منتصف القرن 20م، ليكتسب شارع كاميل سان سونس وجهًا جديدا يتناسب مع متطلبات الفترة وجمالياتها في مجال العمران…
هكذا إذن، تخليدا لذكرى الموسيقار سان سونس، أصبح شارع الاستضافة الطيبة (Boulevard Bon Acceuil) يُعرَف بشارع سان سونس حتى بعد تجديده وتشبيبه، وبقي على هذا النحو إلى أن نفض الجزائريون الغبار عن أنفسهم وأجبروا المحتلين على العودة من حيث أتوا يوم الخامس من يوليو سنة 1962م.
وهنا، عرفانًا بجميل السلطان محمد الخامس وتقديرا له وللمغرب الشقيق، قرروا تسمية هذا الشارع بـ: شارع محمد الخامس، بعد أن أعيد إلى أهله ليصبح جزائريا مثلما كان أيام رياس البحر والعلماء والمجاهدين، وهو كذلك إلى اليوم وسيبقى طالما هناك في هذا البلد رجال…