هل تعرفون “حقول اللّفت”…؟/ فوزي سعد الله
في البداية، خلال العهد العثماني، كانت هذه البقعة، على يمين الصورة الأولى يسارًا، عبارة عن حقل شاسع لزراعة اللّفت يمتد صعودا إلى أعلى حتى ضاحية تِيلِيمْلِي. وكانت كلها تقع ضمن الفحص خارج أسوار المدينة، مدينة رياس البحر والمجاهدين والعلماء “المحروسة بالله” جزائر الولي الصالح الفقيه العلاّمة سيدي الثعالبي عبد الرحمن.
ثم سقطت المدينة بيد المحتلين الفرنسيين عام 1830م بعد فشل المقاومة، ومعها سقطت تدريجيا كل البلاد، ومن ضمن ما كان يُنبىء به هذا السقوط هو أن معالم المدينة التاريخية ستتغير رغما عنها ولو بالقوة والحديد والنار وأن نموّها وتوسّعها لن يكون وفق الأنماط المعمارية الجزائرية المعتادة منذ قرون حتى هذا العام والتي تتضمن في ثناياها الكثير من عطر وعبق ربوع الأندلس.
فحص باب عَزُّونْ…جْنان الآغَا…و”حقول اللّفت”…
ثُلثا المدينة التاريخية تعرَّضا للتدمير الممنهج بمعاول وآليات الغزاة المحتلين، ولم تبق منها سوى مرتفعاتها المعروفة اليوم بـ:”القصبة العليا” والتي كان أجدادنا يسمونها:”الجْبل” مقارنة بالقصبة السفلى المعروفة حينذاك بـ:” الوطأ”. ثم هُدّمت الأسوار والمقابر والأضرحة والجوامع والمساجد والمصليات والزوايا والمدارس بحجة توسيع المدينة…لخدمة المحتلين.
تمدَّدَ العمران الأوروبي شمالا نحو فحص باب الوادي وجنوبًا باتجاه فحص باب عزون حتى أتى على الجِنان والبساتين الجميلة المحيطة بقصور الأعيان والأثرياء ونخبة الحقبة العثمانية كَجْنان الآغا الذي لم يبق من ذكراه اليوم سوى اسم محطة القطار التي تُنسب إليه: الآغا، وصودر برج تَافُورَة الحصن الحامي للمدينة طيلة قرون من جنوبها الشرقي ولم يَعد يَسمع بوجوده أحدٌ رغم أنه ما زال شامخا في صمت في مكانه بمحاذاة حديقة صوفيا، ولم تسلم حتى حقول اللفت التي داس عليها عسكر الاحتلال وحوّلها إلى ثكنة مؤقتة تستريح فيها الفيالق الاستعمارية العابرة للمنطقة وتستعد فيها لمهام جديدة لإحكام السيطرة على البلاد والعباد بأساليب “حضارية” أقل مخلفاتها ملايين القتلى من الجزائريين…
ميلاد جامعة الجزائر…
على هذه البقعة/ الثكنة، على حقول اللفت، قررت السلطات الاستعمارية عام 1881م إنجاز مقرٍّ جامع لعدة مدارس عليا ومعاهد صغيرة كانت مشتتة بين شارع روني كايّي (René Caillé) وشارع سيبيون (Scipion) الضيّق، المتفرّع عن شارع باب عزون من جهة وجْنان الداي حسَن المعروف منذ عهد الاحتلال بمستشفى مايو (Maillot) في فحص باب الوادي من جهة أخرى، بالإضافة إلى مؤسسات تعليمية وعلمية بقلب المدينة التاريخية وعلى أطرافها، وتمّ تدشين هذا المقر العام لهذه المدارس العليا خلال ربيع عام 1887م…
خلال هذه العشرية ذاتها، بُنيت على بعد أمتار فقط من هنا ثانوية دولاكروا (Delacroix) التي تُعرف اليوم بثانوية خير الدين بربروس مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة…ولكم عبرة في الرموز…مثلما حدث للشارع الجديد العابر لحقول اللفت/الجامعة/الثانوية الذي منحته إدارة الاحتلال اسم شارل بيغي (Charles Peguy) الذي لم يدم، لأن دوام الاحتلال من المحال، واستُبدل غداة الاستقلال باسم رجل عظيم في تاريخنا المعاصر وهو المغربي الشقيق القائد عبد الكريم الخطابي…مع كل احتراماتي لصديقي الفرنسي وزميلي في الصحافة أوليفييه بيغي حفيد شارل بيغي والذي أنجز شريطا وثائقيا قبل نحو 4 أعوام عن مشوار جده في إحدى القنوات التلفزيونية الأوروبية…
في العام 1909م، أصبحت هذه البقعة/حقل اللفت بقرارٍ رسميٍّ أول جامعة في الجزائر الجريحة..المحتلة..بمئات الطلبة أغلبيتهم الساحقة أوروبيون، ولا يتجاوز الجزائريون منهم بضع عشرات، جلهم من أبناء المتعاونين بقدر أو بآخر مع الاستعمار والمتعلقين بأذيال المحتلين…
تدمير الحضارات باسم “الحضارة”…
هكذا جاءت إلى الوجود جامعة الجزائر التي نعرف اليوم والتي استرجعناها مثلما استرجعنا كل البلاد بفضل الرجال وأعدناها إلى حضن الوطن لتتخرّج منها أنت وأنا والآخر بعد أن لم يعد لمعاهدنا ومدارسنا وكتَاتيبنا وجود بعد 132 عاما من الاحتلال الهمجي بغطاءٍ “حضاري” لم نصادف حضارته إلا في مؤلفات مثقفي الاحتلال ومبرريه، بينما علِمنا على مقاعد هذه الجامعة أن الغالبية الساحقة من الجزائريين كانت تحسن القراءة والكتابة عام 1830م، وفي عام الاستقلال، 1962م، لم يعد يقدر على الكتابة والقراءة سوى حوالي 10 بالمائة من الجزائريين. مثلما علِمنا أن مستوى الأمية في فرنسا كان عند الاحتلال سنة 1830م أعلى منه أضعافًا في الجزائر. وعلى محبِّي التفاصيل أن يسألوا أولياءهم وأجدادهم ليطلعوا على حجم الدّمار والهمجية “الحضارية” الاستعمارية الفرنسية…
وعندما فهم غلاة المحتلين قبيل الاستقلال في ربيع 1962م أن موعد عودتهم من حيث أتوا قد اقترب، لم يكتفوا بما دمروه في منظومتنا التربوية والعلمية منذ 1830م بل انتقلوا إلى سياسة الأرض المحروقة وأضرموا النيران بثلاث قنابل فسفورية في مكتبة الجامعة التي كانت تتضمن نحو 600 ألف كتاب. وعندما انتهت عملية الإطفاء لم يبق في المكتبة سوى حوالي 200 ألف كتاب. بينما تطلَّبت إعادة تهيئة وإصلاح ما أفسده المجرمون قرابةَ 6 سنوات حيث لم تتمكن المكتبة من إعادة فتح أبوابها إلا في العام 1968م في جزائر حرة مستقلة.
عندما تمرون بحقول اللفت، لا تنسوا أن تتذكروا كل هذه الأحداث التي أنسونا إياها وتنْحَنُوا احتراما للرجال الذين حرروها وأعادوها إلى حضن الوطن، لعل الذكرى تعيد لنا جميعا صفاء الرؤية التي تَضبّبتْ بالكذب والتزوير الممنهج، لاسيّما للسائرين هنا العابرين من “الجُمُعَتِيِّين” الحالمين بجزائر في مستوى تضحيات شهداء تحرير الجزائر وبعظمة تاريخ الجزائر…فَلا تفرّطوا في الأمانة…
25.08.2019م