التقويم الهجري.. ودلالة التماهي مع المبدأ/ د . إبراهيم نويري
مما له دلالة واضحة على كون الإسلام إنما يحتفي بالمبدأ والفكرة والعقيدة احتفاءً ظاهراً لا يبلغه أيّ عامل آخر مهما كان أثره ومهما بلغت منزلته، ارتباط التأريخ الهجري بحادث الهجرة المباركة، ووصول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة المنورة في شهر ربيع الأول الأنور (في المدة الواقعة منه ما بين 2 ـ 16) كما ثبت ذلك في التحقيق التاريخي، وهو ما يقابل بدايات موسم الخريف أي شهر سبتمبر عام 622 ميلادية.
ووفقا لذلك فإن بداية اليوم الأول من شهر المحرم من العام الهجري الأول هو يوم 16 من شهر يوليو عام 622 ميلادية؛ ومما يلفت الانتباه أيضا بهذا الخصوص أن بداية التقويم الهجري القمري، جُعلت غرة المحرم، ولم تُجعل يوم بلوغ النبيّ صلوات الله وسلامه عليه وصاحبه الصدّيق طيبة الطيبة، وخروج أهل يثرب مستبشرين مهللين مرحبين منشدين:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
السر في ذلك فيما أرى أن الإنسان المسلم، يُفترض فيه أن تهيمن عليه الفكرة والمعتقد، فهو لذلك يُخلص لهما، ويجعل كلّ ما يملك في خدمتهما والتمكين لهما؛ وتلك هي الميزة العظمى التي غرسها رسول الهدى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أتباعه؛ وذلك واضح تماما في الهجرة الشريفة نفسها، فهو عندما قطع ـ في رحلة مضنية ـ رمال ووهاد وجبال وآكام الصحراء بين مكة والمدينة، وقد بلغ الثالثة والخمسين من عمره الشريف، فلم يكن ذلك لزيارة أبويه اللذين ماتا ودفنا بالمدينة أو قريبا منها (رحمهما الله برحمته الواسعة)، وإنما كان لرعاية رسالته والتمكين لها بأرض يثرب الطيبة التي عزم أهلها على نصرتها بكلّ غال ونفيس، بعدما آمنوا بها، وتشربتها قلوبهم وأرواحهم وضمائرهم .
ولقد فهم المهاجرون أيضا بأن تحوّلهم من موطنهم إلى يثرب، ليس ابتغاء الثراء أو الاستعلاء في الأرض.. كما فهم الأنصار بأن احتضانهم للنبيّ الكريم وصحبه ليس ابتغاء شرف أو البحث عن جاه مفقود، وإنما لرغبة الحصول على رضوان الله، والاستضاءة بأشعة الوحي الخاتم .
الحق أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان مفكرا عظيما وحكيما بارعا، عندما اختار( الهجرة) النبوية الشريفة ـ باقتراح من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ذكر الإمام الطبري في تاريخه ـ مَعلما يدلّ على التاريخ الإسلامي، لأنه لو اختار مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، لتقويم التاريخ لدى المسلمين، كما هو الشأن بالنسبة لميلاد السيد المسيح عليه السلام في التقويم الميلادي لدى النصارى، لما كان في الاستهلال بالمولد غير دلالة عاطفية فحسب وإنْ كان لها وقعها في ضمير المسلم، بينما الهجرة تشير إلى الرسالة نفسها وأهدافها وما يمكن أن يُبذل في سبيلها من مشاق وتضحيات.
ويدلّ أيضا على تقديم معيار الفكرة والمبدأ والرسالة، أن الفاروق عمر رضي الله عنه، لم يختر بدء نزول الوحي مَعلماً للتقويم، لأن الدعوة الإسلامية بدأت محاصَرة بين الأهل والعشيرة والأقربين، وما أن أخذتْ في الاتساع والإندياح حتى ضيّق هؤلاء الأقربون عليها الخناق من كلّ ناحية، أما الهجرة فقد كانت حدثا هائلا نقل الرسالة والدعوة من طور إلى طور، ومن وضع إلى وضع آخر مغاير، له ما له من مردود نفسي بعد عناء طويل.. بل لقد تمخّضت عن قيام دولة المدينة واكتمال معالم المجتمع الإسلامي الأنموذج الفذ، ذلك المجتمع الذي أصبح مثالا إنسانيا واقعيا، كثيرا ما حلم به الفلاسفة وتشوّف إليه علماء السياسة والاجتماع عبر كلّ مراحل التاريخ .
والله وليّ التوفيق