حتى لا يكون الحوار مجرد “قصرة”ومؤانسات/ د. حسن خليفة
استهلال: “حاجتنا إلى النقد لا تقلّ أهمية عن حاجتنا إلى البناء“.
أحب أن أسارع إلى القول بصدق وحزم : ربما يكون صاحب هذه السطور آخر من يجب أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع الحسّاس الشائك وهو إدارة الحوار الوطني، في هذا الظرف الشائك المعقد المتّسم بكثير من الالتباسات؛ ليس لأن خلفية كاتب هذه السطور أدبية وثقافية فحسبُ، وليس لأنه لا انتماء سياسيا له، ولا يشتغل بالسياسة بالمعنى الحزبي للسياسة، بل لأن هذا الشأن (أي الحوار) عزيز ومكين، ويحسُن أن يتصدّر الحديث عنه وفيه ذوو العلم والمعرفة والمكانة والخبرة والأقرب إلى الموضوع علما وممارسة، وما أكثرهم في وطننا الغالي من قامات وكفاءات وعلماء ورجال معرفة .
ولكن؛
- وحيث إن المتابع يلحظ هذا التباطؤ في شأن الحوار وما يتصل به؛
- كما يشهد الملاحظون بانعدام الفعالية والاقتدار في تحقيق مرامي الحوار؛
- وعدم التقدّم الإيجابي المطلوب بشأن مجمل القضايا التي يجب أن يتناولها الحوار بالحديث والنقاش والمدارسة..حتى الآن على الأقل؛
- وحيث إن التردّد يطبع الكثير من أفعال من ينبغي أن يساهموا بجد في المسألة؛
- وحيث إن هناك أكثر مجرد “شكوك” في التركيبة التشكيلية المعهود إليها بالحوار؛
- وحيث إن الكثير ممن وُجهت لهم الدعوة بشكل أو بآخر ـ آثروا التريُث ـ وعدم الإقدام ومنهم جمعية العلماء المسلمين التي أصدرت بيانها قبل يومين؛
- وحيث إن الأمور تكاد تراوح مكانها، مع علم الجميع أن الأعداء ـ وما أكثرهم ـ يصلون الليل بالنهار بحثا ونقاشا ودراسة لكل ما من شأنه أن يعرقل ويعوّق ويفسد ويقطع الطريق على الوطن إلى برّ الأمان والأمن والاستقرار…ليبدأ العمل الحقيقي الجدي المثمر والفاعل وهو بناء جمهورية قوية عادلة ذات استقلال في قراراتها .
في ضوء هذا التباطؤ والنقاش المحرّف غير الصحّي …وجب أن يتكلم كل من يستطيع من باب النصيحة أولا، وهو باب عظيم من أبواب بناء صروح الأوطان وإقامة المجتمعات الصالحة.
وقد بادرتُ بهذه السطور للتأكيد على أن الحوار أمر جلل، لذلك لا ينبغي أن يكون بأي طريقة، بل يجب أن يكون بالطريقة الصحيحة، وبالجدية اللازمة القابلة للقياس .فالحوار ليس” قصرة” كما جاء في عنوان هذه السطور. القصرة جلسة للمؤانسات والأخذ والردّ، مع نصيب من التفكّه وما يشبه، بلا جدول عمل وبلا نتائج حاسمة ينبغي الوصول إليها بتوقيت محدد . بل الحوار جلسة شاقة مطوّلة متشعبة، وبنقاش وحجاج وجدل وتفاوض، تحضر فيه البراهين والأدلة والمقدرة على الطرح المقنع القوي.
لقد بدا لي ـ وأرجو أن أكون مخطئا ـ كما بدا لي، كما لكثيرين غيري، أن ما يتمّ بشأن الحوار الوطني هو أقرب إلى المناقشات العادية، والمؤانسات الأخوية أكثر منه شيئا آخر. إنه ليس حوارا بالمعنى العلمي والثقافي والحضاري لكلمة “حوار” الذي هو فن إدارة الكلام بين عدة أطراف، لكل طرف وجهة نظر أو وجهات نظر، في كل شأن مما ينبغي أن يخوض فيه المتحاورون .
وقد رأينا من مجمل المتابعات لما جرى ويجري على أن الأمر ـ بالفعل ـ أبعد ما يكون عمّا ينتظره الشعب الذي خرج عن بكرة أبيه بحثا عن الحلول للمآزق المتعددة التي عمل الفريق الحاكم السابق على دفع الوطن اليها قصدا أو غيرقصد.
هل ينبغي التذكير بهذه الأمور:
ـ إن أهم ما في الحوار هو التحضير القَبلي للقاعدة المتينة للقضايا التي يُتحاور حولها، على أن يُضبط ذلك ضبطا دقيقا ويُرسل إلى المعنيين، حتى يكون حضورهم للحوار حضورا مؤثثا أي لديهم كل ما يجب أن يُقال ويُطرح. لا أن تُطرح عليهم الأمور في الجلسة ليبدأوا التفكير و”التخمام” وقتئذ.
ـ إن الحوار يقتضي عصفا ذهنيا بالغ الاتساع، وفق الأصول التي يدور عليها هذا المحور الهام من محاور التفكير الإبداعي الجاد.
ـ إن الحوار يقتضي تسجيل كل ما من شأنه أن يفيد في تحديد مسار واضح واقعي إيجابي للحوار، والتذكير به حين الحاجة، في بدايات الجلسات، مع ضبط عقارب الزمن، والحرص على الوصول إلى نتائج عملية واقعية مقنعة.
ـ إن الحوار يقتضي قيادة ـ في شكل فرد أو مجموعة أفراد ـ ملهمة، مشبعة بروح التفعيل والتحفيز والدعم والمرونة والتبصّر. لها علم بما هو قائم وبما يجب أن يكون عليه جوّ الحوار المطمئن، هي التي تبدأ الحوار وهي التي تحاور وتدفع إلى المزيد من الحوار، على أن تسجل في النهاية كل شيء وتعرضه على المتحاورين، وتقدمه إلى الرأي العام بصدق ونزاهة.
ـ إن الحوار يقتضي البعد عن “التناقض” في تصريحات من يقودون الحوار، بل ويقتضي البعد ـ قدر المستطاع ـ عن البروز الإعلامي الفارغ الذي لا يقول شيئا للمجتمع ..ولا يعني أكثر من الظهور ذاته.
ـ إن الحوار الحقيقي الجاد يعني تجنّب الانتكاسات والرجوع إلى الوراء …بأن يكون الحوار إحكاما للبناء لا يحتمل أي انهيار، يُحرصُ فيه على المتانة والقوة والصدق والصراحة والمسؤولية والشعور بالاطمئنان .وهذا ليس عملا بسيطا بطبيعة الحال .
ـ يجب التذكير هنا بمسألة غاية في الأهمية ..يجملها هذا القول: “لكي تثمر أعمالنا النتائج المرجوة والأهداف المبتغاة، يجب علينا وضع الخطط لتطبيقها وقياس النجاح فيها ” .
وهذا يقتضي امتلاك الرؤية لبلوغ النهاية المرجوة، وكذا امتلاك الوسائل الموصلة إلى تلك النهاية. ولن يكون ذلك إلا بذكاء وقدرات ومهارات وقيادة راشدة لا غبار عليها . فهل نتجاوز حقل المطبّات والاختلالات والاختلافات إلى حقل حوار حقيقي مثمر.
بقطع النظر عن النوايا التي لا يعلمها إلا الله …فإن الواجب الأخلاقي يقتضي أن يكون الحوار أكثر جدية وأقوى بناء، وأسلم مسارا، وأنزه نية، وأدعى إلى تحقيق مطالب الشعب بكل ما يقتضيه الأمر، بشرا وأفكارا وحُسن إدارة .وحاجتنا إلى النقد لا تقل عن حاجتنا إلى البناء .كما جاء في الاستهلال.