الحكمة في الجدل السياسي/ التهامي مجوري
الحكمة هي وضع الشيء في محله، قولا كان أو فعلا أو موقفا أو رأيا، بينما هي في ساحات الاهتمام بالشأن العام، وفي الجدل السياسي تحديدا، عبارة عن فرض المواقف والقناعات والآراء وكأنها هي القول الفصل، الذي لا قول بعده ولا قبله..، وذلك مبرر ابتداء بحكم مطلق الاجتهاد؛ لأن المفترض في كل من يهتم بالشأن العام، انه صاحب مشروع له تصور عن الحياة، في تشخيصها وكيفية تنميتها والنهوض بها واستدراك نقائصها، ولكن في واقعنا الذي نعيش، أن الحرص على فرض الأقوال والأفعال والمواقف والأراء لا ينطلق من هذه المسلمة المبررة، أو من افتراض أن الحكمة تكون عند الغير، إنما ينطلق من أنه هو كل شيء وغيره لا بشيء؛ لأن الحكمة في وعائه وليست في وعاء غيره.
فعندما تقرر السلطة شيئا مثلا، لا تعبأ بأي رأي يأتي من خارجها ولو كان من أحكم الحكماء، وإذا تبنت رأيا من أراء من خارجها على غير المعهود منها، فإنها تفعله بدافع آخر ترجح عندها بأنه يحقق ما تريد..، وليس رجوعا عن المنهج والمسلمات التي تنطلق منها عادة، بحيث صارت الطبقة السياسية تتحسس مواقف السلطة، قبل أن تبادر بما تمليه عليها المصلحة العامة، وربما ترفض السلطة قولا أو فعلا طالب به خصم، وتلتف عليه وتعرضه في وعاء آخر، فلا يبدو عليها أنها تبنت موقف غيرها.
وكذلك الطبقة السياسية الموالية للسلطة، التي لا ترى لها رأيا خارج مربع السلطة، فإنما لا تعتقد في صحة شيء لا تعرضه السلطة؛ بل تزايد عليه وتبالغ في تبني هوى السلطة قبل أن تصرح به، وليس بعيدا عنا نموذج المجموعات التي كانت تتبنى ترشح الرئيس بوتفليقة في العهدتين الرابعة والخامسة، قبل أن ينوي هو نفسه الترشح؛ بل إن بعضهم قال أنا “أصوت على فخامة رئيس الجمهورية ولو كان في القبر”. وإذا كانت السلطة ترى في مواقفها وقراراتها هي الحكمة التي يجب تبنيها، بحكم شعورها بالمسؤولية، وذلك قد يكون مبرر بوجه من الوجوه، فإن الموالاة التي ترى أن تبني الطروحات الرسمية هي عين الحكمة، مجرد اصطفاف خداع لا قيمة له؛ لأن حجتها في ذلك لا تزيد عن قول القائل “إذا قالت حذامي فصدقوها، فإن القول ما قالت حذاني”، وقول ذلك الفقيه المالكي المتشبث بسيدي خليل “نحن خليليون وإن ضل خليل ضللنا”.
وهذا النوع من الحكمة المشوهة، يحمل من السلبية ما لا تحمله سلبيات التسلطة نفسها؛ لأن المبالغة في موالاة السلطة بالحق وبالباطل، قتل للمواهب المبثوثة في صفوف الأحزاب والجمعيات التي تبنت هذا النهج، وتضليل للسطلة التي ربما اجتهدت عن حسن نية وبصدق في التوجه.
اما الحكمة عند المعارضة ليست بعيدة في منهجيتها عن منهج السلطة ومواليها، فهي أيضا تنطلق من أن رفض السلطة وطروحاتها هو عين الحكمة؛ على اعتبار أن السلطة لا تأتي بخير، لأنها تسير وفق منطق معين درج عليه النظام، الذي لا يرى في طروحات غيره حرصا على حماية الدولة، ولا وفاء للشعب، وإنما كل من ليس هو، إنما هو انتهازي لا يعول عليه في إصلاح البلد…، وسلبية هذا الموقف من المعارضة، هو الدخول في منطق النظام ومنطلقاته، فتحولت مواقفها إلى مجرد رد فعل سلبي وكفى، بينما الحكمة في المعارضة هي استدراك ما فات النظام وليس مجرد الوقوف ضده.
لا شك أن هذه الطروحات والمواقف المسبقة للسلطة ومواليها ومعارضيها، من بعضها البعض، لها ما يبررها من التجربة التي فاقت النصف قرن، ولكن ما يبررها أو يبرر بعض جزئياها، ليس هو كل الحقيقة التي تهدي وتهدف إلى الحكمة التي هي رأس الأمر في كل شيء.
فالسلطة في بلادنا لا ترى في القوى السياسية، ما يمكن أن يقدم شيئا؛ لأنها لم تخرج –في تصوراتها- من عهد الحزب الواحد، الذي تجتمع فيه السلطة بالحزب وبالمنظمات الجماهيرية وبالجيش والإدارة، ولا ترى فيمن ليس في فلكها، أمانة ولا شرعية وصدقا يؤهلها لقيادة الشعب، وهذا بعضه مستصحب من المواقف التاريخية، التي ملئت شكوكا وريبة، بين السياسيين والعسكرين، وفي إطار السياسيين ما بين الثوريين والإصلاحيين والمركزيين في الحركة الوطنية، وفي إطار العسكريين ما بين جماعة فرنسا والمجاهدين، وبعضه الآخر تغذيه الطبقة السياسية الضعيفة، التي لم تستطع مقاومة توجه السلطة بمشاريع منافسة، فأحدثت نوعية من النضال يرى في الحكمة مسايرة النظام السياسي وعدم مقاومته، خوفا وطمعا وترددا، وهذا ما يبرر ويمهد لنشأة طبقة سياسية جديدة ظهرت بوادرها مع الحراك الشعبي، وهي طبقة أخرى تضاف إلى المشكلات التاريخية، وهي مشكلة تمرد الجيل الجديد عن الجيل السابق، بسبب تلك المشكلات، التي توحي بعجز الطبقة السياسية الرسمية والشعبية عن النهوض بالمجتمع.
ولتجاوز هذا المستوى من الحكمة القاصرة، لا بد من مراجعة جذرية لكيفية الممارسة السياسية: مبادئ ووسائل وغايات؛ لأن الحكمة في أصولها شعرنا أم لم نشعر بها هي موزعة على جميع تلك الفئات، على ما فيها من نقائص..، ويمكن جمعها بقبول الإيجابي من كل طرف وتثمينه وتنميته في إطار أوسع وأفضل، فلو تساءلنا مثلا عن الحكمة: هل هي عند المقدام أم عند الجبان؟ لأجبنا من دون تردد أنها عند المقدام؛ لأننا نرى في الإقدام هو الصورة الأكمل والأصوب..، ولكن ألا يمكن أن يتحول المقدام هذا إلى متهور في موقف ما؟ بلى. ولذلك يقال إن الذي يغرق في السباحة هو من يحسنها، أما من لا يحسن السباحة فلا يغرق؛ لأن الخوف هو الذي يمنعه ابتداء.
وعليه يمكن أن يكون طرف الحكمة عند الجبان، والطرف الآخر عند المقدام، والجمع بين أجزاء هذه الحكمة الموزعة بين الطرفين، هو الذي يهدينا إلى الشجاعة، التي بينها وبين التهور شعرة، وبينها وبين الخوف المفضي إلى الجبن شعرة.
إن ما بين الكثير من الفضائل والرذائل في الحراك البشري، شعرات لا تكاد ترى لا يصل إليها إلا الحكماء، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة 269].