بعد حادثة الحفل المروع في ملعب 20 أوت الاستعمار الفكري يبقى البلية الكبرى لمجتمعاتنا/محمد مصطفى حابس
قدمت يوم أول أمس وزيرة الثقافة مريم مرداسي، استقالتها للرئيس الجزائري المؤقت عبد القادر بن صالح، أو أقيلت كما هو واضح، وذلك على خلفية أحداث التدافع التي وقعت خلال إحياء مغني الراب عبد الرؤوف دراجي، المعروف باسم” سولكينغ” حفلا بملعب 20 أوت بالجزائر العاصمة، أودى بحياة 5 أشخاص وتسبب في إصابة عشرات بجروح جلهم شباب.
كما أقيل سامي بن شيخ مدير الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، فيما أمرت النيابة العامة بفتح تحقيق مبدئي في ملابسات الحادث الأليم!!
وقبيل استقالة الوزيرة أو إقالتها هاجمت مرداسي كل من طالب بإقالتها، واعتبرت أن ما حدث لم يكن بسبب سوء التنظيم أو وقوع شجار وزيادة الحماس عندهم، بل قالت بسبب تزاحم الجماهير في الخروج، متناسية أن الواقعة كانت في بداية الحفل وليس في نهايته، مشيرة إلى أن الفنان نفسه أقام7 حفلات في تونس، ولم يحصل ما حدث بالجزائر.
وأثار الحادث موجة غضب كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث طالب العديد من النشطاء بإقالة وزيرة الثقافة، معتبرينها المسؤولة المباشرة عن تنظيم التظاهرات الثقافية والحفلات الفنية، وأيضا معاقبة كل المتسببين في تحويل حفل فني إلى مأتم؟؟
وذكرت بعض الأبواق الاستعمارية من فرنسا أن المغني “سولكينغ” لم يكن يعلم بسقوط ضحايا إلا بعد انتهاء الحفلة، وذلك ردا على الانتقادات التي طالته بمواصلة الغناء رغم وجود وفيات بين جماهيره.
من جهة أخري ذكر مغردون أن كل هذه “الهيلولة” مدبرة من طرف أذناب العصابة الحاكمة، جاءت لإلهاء بعض الشباب عموما وقصد التشويش على الحراك السلمي خصوصا.
ولتكدير صفو المزاج بعد هذه الحادثة المروعة، نسجت حكايات وطرائف من هنا وهناك، قيل أن فلان طلق زوجته لأنها تركت بنته تذهب لوحدها للحفل، وأخرى كذبت على زوجها وأخفت أنها تذهب لزيارة أختها وليس للحفل.. كما نقل بعض السذج أن “إماما” من العاصمة رفض حتى صلاة الجنازة على أحد الموتى متناسيا أن الضحايا أبرياء لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والمسؤولية جماعية في هذه الكارثة كباقي كوارث الجزائر، بداية من أولياء الأمور من الآباء والأمهات إلى المدرسة إلى أعلى هرم في الدولة، فلا يجب أن نحمل أطفالا في سن الزهور المسؤولية لوحدهم، وقد أورد الإمام مالك في الموطأ أن سيدنا عيسى بن مريم كان يقول لأصحابه كلاما بليغا تحت عنوان:“لا تنظروا في عيوب الناس؟”، حيث قال عليه السلام، معلما ناصحا:«…ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية».
وفي باب المسؤولية الأسرية يقول الدكتور عبد الكريم بكار:”على الآباء ألا ينتظروا العون الاجتماعي المعهود على تربية أبنائهم، وعليهم أن يتحملوا عبء التربية بمفردهم.. لذا كم هو جميل أن يبادر الآباء والأمهات لوضع تلك القوانين المنزلية كقوة تربوية هائلة”، وسرد جملة من القوانين ليجعلوا منها نواة لوثيقة قوانين لأسرهم، بل دستورا كدستور أي تنظيم مجتمعي أو حتى دستور دولة، مبوبا أياها في بنود منها على سبيل المثال، قوله:
– لا “ضرب” ولا “لعن” ولا “سب” ولا كلمات صريحة “تخدش الذوق”.
– الإنصات لأي متحدث وعدم مقاطعته، بعدها عبر عن مشاعرك بكل أدب ووضوح.
– من يزورنا يتقيد بأنظمتنا، والأسرة مقدمة على ما سواها وحاجاتها قبل أي شيء.
– غرفتك مسؤوليتك ولا أكل داخل الغرف.. مع عدم التخلف عن وجبة الأكل الجماعية.
– أغلق ما فتحت (باب، نافذة، طبق، علبة) وارفع ما أسقطت واترك المكان في حال أفضل.
– لا سهر بعد الساعة (…)، الأجهزة الذكية من الساعة (…) إلى الساعة (…).
– يمنع استخدام أي جهاز في وقت جلوس الأسرة مع بعضهم.
– الجميع يتحمل مسؤولية المحافظة على المنزل وممتلكات الأسرة.
– لا يدخل على أحد في عزلته إلا بطرق الباب والاستئذان أولاً.
وفي نفس الباب، يقول الدكتور محمد راتب:(لا أجد موضوعاً ينبغي أن يهتم به المسلمون كتربية الأولاد) فأعط الأمر قدره أيها الأب وأيتها الأم متذكرين أن التربية (عمل شاق) تحتاج إلى جهد كبير (وذكاء أكبر) وتتطلب متابعة سبعة أيام في الأسبوع، وأربعاً وعشرين ساعة في اليوم!
وبالتالي بات اليوم على الأولياء، بعد هذه الأحداث الأليمة، العمل على عدة جبهات ومختلف الأصعدة خاصة مع شراسة الاستعمار وعدوانه المتجدد بتجدد وسائل الهيمنة الحديثة المتلونة كالحرباء، تقفز على الحدود ومن وراء البحار، وكما قال بعظهم المعركة اليوم معركة تربوية معاصرة متجددة “معركة قناعات تزرع.. وليست معركة أجهزة تنزع!!“.
من جهته، كتب اللواء الركن محمود شيت خطابا في مجلة “المسلمون”(عدد 46 المجلد التاسع)، منذ أزيد من نصف قرن، مقالا غاية في الأهمية بعنوان ” الاستعمار الفكري..”، ذكر فيه أن الاستعمار الفكري هو البلية الكبرى التي بليت بها شعوب العالم الإسلامي، محذرا بقوله أن “الاستعمار شر كله، ما في ذلك من شك، ولكن أشد أنواع الاستعمار خطرًا هو الاستعمار الفكري، وإذا كان أمر معالجة الاستعمار العسكري يقع على القادة العسكريين بالدرجة الأولى…وأمر معالجة الاستعمار السياسي يقع على عاتق القادة السياسيين بالدرجة الأولى…فإن أمر معالجة الاستعمار الفكري يقع على عاتق قادة الفكر بالدرجة الأولى“…”والذي نلاحظه أن كثيرًا من بلاد العرب وأقطار المسلمين قد تخلصت نهائيًا من الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي، ولكنها لم تتخلص مطلقًا من الاستعمار الفكري، فهي لا تزال ترزح تحت وطأته حتى اليوم…”، طبعا بالنسبة للاستعمار الاقتصادي، لا نوافق عليه وبدراجات متفاوتة، فتسيير خيراتنا يتم بصفقات وهمية في ظلام دامس لا يشعر به الشعب إلا بعد فوات الأوان وإفراغ الخزان، كما هو حال جل أوطان العربان، وما سجن رموز العصابة الخائنة في ” الحراش” في المدة الأخيرة عن المبصرين ببعيد.
لأن الاستعمار الفكري إذا بقي في أمة سهل على كل أنواع الاستعمار أن يعود بيسر وسهولة إلى تلك الأمة، ذلك لأن الاستعمار الفكري هو الأصل وكل ما عداه فروع، وما تنبؤات الجنرال الفرنسي ديغول بعودة فرنسا لمستعمراتها الإفريقية بعد استقلال أعرج دام أزيد من نصف قرن، عن المبصرين ببعيد.
يقول اللواء الركن محمود شيت في خطاب- رحمه الله- ، في مقاله أنف الذكر ” إن الذين يظنون أن التخلص من الاستعمار السياسي والاستعمار الاقتصادي معناهما التحرر والانعتاق من الاستعمار كله مخطئون كل الخطأ أو مغرضون كل الغرض أو جاهلون بحقائق الظروف والأحوال“.. “كيف يمكن أن نصدق من يدعي أنه طرد جيوش الاستعمار وحرر بلاده اقتصاديًا من ربقته، وهو في نفس الوقت يعتمد في مدارسه على منابع الثقافة الأجنبية غربية كانت أم شرقية، ومدارسه هذه من منابع ثقافة آبائه وعقيدة أجداده خواء؟!”..”كيف نثق بمن يدَّعي التحرر والانطلاق، وهو يستورد المبادئ الدخيلة الوافدة من الشرق أو الغرب؟!”
هيهات… هيهات… إن الطريق واضحة للسائرين، فقد قطعت البلاد العربية والإسلامية شوطًا بعيدًا بطرد الاستعمار السياسي والاقتصادي من بلادها ولو جزئيا، إذ أصبح اليوم من أهم واجبات المسلمين عربًا وغيرهم، أن يعملوا على طرد الاستعمار الثقافي من عقولهم، لأن الاستعمار الفكري أخطر بكثير من كل استعمار آخر كما هو معلوم. وحينذاك ستشيد صروح الحرية والانطلاق في بلاد العرب وديار الإسلام على أسس سليمة، وإلا فستبقى تلك الحرية وذلك الانطلاق مشيدة البنيان على جرف هار، كما هو الحال في بلداننا الإسلامية.. “وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ“.