بعد صدور كتابه الجديد “من قلب الحراك الشعبي” البصائر تحاور الأستاذ التوهامي مجوري/ فاطمة طاهي
“الفرص في الجزائر ستقفز قفزة نوعية خلال الخمسين سنة القادمة”
الأستاذ التوهامي مجوري، كاتب ومؤلف وناشط في الساحة الإعلامية والسياسية والثقافية، رئيس تحرير جريدة البصائر سابقا، ثمّ أميناً عاماً لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وحالياً مستشارا لرئيس جمعية العلماء المسلمين، مدير مجلة الوعي، وكاتب صحفي في عدة مواقع وجرائد وطنية منها الشروق أون لاين، أصدر حديثا كتابه الذي يحمل عنوان: “من قلب الحراك الشعبي“، حيث سعى المؤلف من خلال هذا الكتاب الجديد إلى توثيق أهم أحداث الحراك الشعبي كالوقوف على البيان الذي أصدرته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والرسالة التي كتبها يدعو فيها أحمد طالب الابراهيمي للتدخل حين دعاه الحراكيون، كما يطرح الأستاذ في هذا الاصدار تساؤلاته الكبرى: لماذا حدث الحراك الشعبي؟ ولماذا لم تُفكر النخبة في كيفية تجسيد الضمانات السياسية؟ كما أشار في كتابه إلى التفاؤل وأمل الشعب فيما ستأتي به الأيام القادمة للمضي قدما بجزائر جديدة، كما تحدث الأستاذ أيضا في لقائه مع البصائر، عن فشل الذباب الالكتروني ودعاة الجهوية في تيئيس وإحداث الفتنة بين الشعب الواحد، مشيرا كذلك إلى دلالة الصور والشعارات السياسية والثقافية والحضارية التي رفعها الشعب الجزائري في مسيراته، كما وجه الأستاذ التوهامي مجوري رسالة لشبابنا يحثهم على القراءة والمطالعة للوصول إلى المعرفة والتحكم في التكنولوجيا التي هي أساس المجتمع الصناعي المتقدم.
حاورته: فاطمة طاهي
في البداية حتى يعرفكم جمهور البصائر أكثر، من هو التوهامي مجوري ؟
التوهامي مجوري، إعلامي بالممارسة وليس بالشهادات، فأنا عصامي التكوين، ما دفعي إلى العمل الإعلامي هو العمل الدعوي، في جيلنا كان فيه اهتمام بالدعوة من خلال الخطاب المسجدي فقط أو اللقاءات الخاصة، فكانت ميولي إلى الإعلام باعتبار أنه لم يكن هناك إعلاميين من الدعاة يمارسون هذه المهمة، فاقتحمت الميدان، وأيضا في التسعينيات حرمنا من الخطاب المسجدي بسبب الأزمة، فكانت لي ممارسة في الاعلام من قبل، والحمد لله نحن كرساليين نؤدي دورنا حيثما كنا وأينما وجدنا.
أصدرتم قبل أيام فقط كتابا يحمل عنوان: “من قلب الحراك الشعبي”، ما هو الدافع الذي جعلكم تكتبون عن الحراك الشعبي؟
أولاً من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، أنا كتبت عن الحراك الشعبي لاهتمامي بقضايا أمتي وقضايا مجتمعي وهمومه، كمثقف لابد أن أسجل موقفا ورأيا، فضلا عن أني عضو في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي كان لها حضور في مثل هذه المنعرجات التاريخية، وبهذا كتبت عن هذه الفترة للحراك الشعبي.
ما هي أهم المحاور أو النقاط التي تطرقتم إليها في كتابكم “من قلب الحراك الشعبي”؟
الكتاب سميته: “من قلب الحراك الشعبي“، جمعت فيه مجموعة من المقالات التي كتبتها خلال الفترة الأولى من الحراك الشعبي،منذ أربعة أشهر تقريبا، فكانت فيها أحداث ينبغي أن توثق، فجمعية العلماء المسلمين أصدرت بيانا، وعلماء الجزائر أصدروا بيانا، وأنا دعوت الدكتور أحمد طالب الابراهيمي في رسالة موجهة إليه بعنوان: “نداء الجزائر للدكتور أحمد طالب”، فهذه الرسالة رأيت أنّها ينبغي أن توثق، لماذا؟ أولا: لأنّه كانت للنّاس قراءات، ثانيا: ثقافتنا نحن الجزائريين للأسف هي ثقافة شفهية، وبالتالي ما لم يدون يضيع، ولذلك الكثير من تاريخنا ضاع بذهاب صانعيه ورجاله، فأردت أن أجمع هذه المقالات التي كتبتها خلال هذه المرحلة، وأضفت إليها ثلاث مواضيع: الموضوع الأول: لماذا كان الحراك؟ وهذا السؤال مهم حتى يعرف الانسان أن الحراك الشعبي لم يأتي هكذا صدفة، إنمّا له أسباب ودوافع وغايات، أيضا، حركة التاريخ التي تخضع لله سبحانه وتعالى، يعني الله سبحانه وتعالى جعل قانونا للتاريخ، أن الناس إذا تخاذلوا لابد أن يرحلوا ويأتي أناس آخرين، فالحراك الشعبي هو عبارة عن إشعار بأنّ هناك عرق حي في المجتمع، تحرك في الوقت المطلوب وقام بواجبه، الموضوع الثاني: تحت عنوان: “الضمانات السياسية”، فبعد الحراك وقع انسداد وكأن النّاس يبحثون عن ضمانات، الشعب يريد ضمانات سياسية حتى تكون الرئاسيات، كذلك الجيش يريد ضمانات سياسية حتى تكون الرئاسيات، الطبقة السياسية والمثقفين والمجتمع المدني يريدون كذلك ضمانات سياسية، لكن كيف نحقق هذا الأمر؟ هذا الذي لم يُفكر فيه، كلّ واحد يبحث عن ضمانات، لكن لا يفكر كيف يجسد هذه الضمانات، الكلّ أرادها ضمانات حسب رغبته، الموضوع الثالث: تحت عنوان: “التفاؤل”، فلما أخذت الكتاب من أجل التصحيح عند الأستاذ عبد الله عثمانية، ليساعدني في التدقيق اللغوي وهو أستاذ مربي، سألني عن الحراك إن كنت متفائلا به قائلا: هل أنت متفائل؟ قلت له: نعم أنا متفائل، ولما رجعت من عنده أدركت أنها الحقيقة ينبغي على النّاس أن يدركوا تفاءلهم مهما كانت المعوقات، فأضفت موضوعا آخر سميته “التفاؤل”، وكان هذا مجموع الكتاب، أيضا الأهم من هذا أن دور المثقف في الحياة السياسية في البلاد بكلّ أسف كان سلبياً، فمن خلال الفترات السابقة كان المثقف يغرق في ثقافته ولا تغرق الثقافة فيه، لماذا؟ لأنّ الانسان إذا غرق في شيء لا يبحث عن نقل تلك الثقافة، بينما لما تغرق فيه الثقافة والعلم، سيحرك ويعلم المجتمع، وأنا كمثقف، وليس سياسيا ولا حزبيا، قلت عليّ أن أساهم بشيء يعرفه الناس، ليس بمجرد كتابة مقال ثمّ يندثر، ويذهب، بل في توثيق هذه الأحداث، فكان هذا الكتاب الذي يحمل عنوان “من قلب الحراك الشعبي”.
قبل الحديث عن الحراك الشعبي، يعني عشرون سنة من الصمت عشرون سنة من تخدير أو تنويم الشعب بأكمله، إن صح التعبير، ما هو السبب الذي أدى بهذه الفطنة المفاجئة؟
في الحقيقة ليست عشرين سنة، ففي هذه العشرين سنة قضي تماما على الساحة السياسية، أما البداية فقد كانت قبل ذلك بكثير، يعني من بداية التحول من العهد الأحادية إلى التعددية في 1989م، كانت التجربة رائعة، سنوات عاش فيها الشعب الجزائري حركة سياسية، حركة انتقال من العهدالأحادي الى العهد التعددي، فأصبح الشعب يعبر كما يشاء، وفتحت الجرائد، حيث كانت حركة إعلامية قوية، لكن بكلّ أسف بعد 1991م، وبعد الانقلاب على صوت الشعب من خلال ما قامت به شرذمة من العسكريين والسياسيين، الذين أدخلوا البلاد في دوامة لمدة عشر سنوات أو أقل بقليل، والحصيلة معروفة تقدر بـ 250 ألف قتيل، هذه الحصيلة التي لا تكون إلا في الحروب، ولا تكون في صراع سياسي داخل الشعب الواحد، لما نعرف طبيعة هذه الشرذمة والتي هي العصابة، نجد أنّها لا يعنيها الأمر حتى ولو أبادت الشعب الجزائري بأكمله، فهي لا تشعر بهذا المجتمع ولا تعيشه، ولا تشعر بانتمائها له، تعتبره أنه شعب لا بد أن يساق كما تساق الدواب، لكن بعد سنة 1999م كانت قفزة ومرحلة جديدة، حيث بعد 1989م لم يكن هناك انتعاش الشعب، إلاّ في سنة 1999م ولما قررت السلطة إجراء انتخابات رئاسية تعددية، وقد كسر فيها جدار الصمت، وكانت شبيهة بهذه الانتفاضة انتفاضة الحراك، لكنها كانت أقل، وكان استبشارا بالخير، على أنه أصبح البحث عن الحد من الدماء محل إجماع والانفتاح السياسي، وكذا لابد من الخروج من الأزمة، ولابد من أن نتجاوز أخطاء بعضنا البعض، حقيقة كانت فيه حركة لكن للأسف بعد ترشح عبد العزيز بوتفليقة، وقبلت به السلطة الفعلية، كرئيس مُرشح للسلطة، حيث تقدم كمرشح مستقل وحر، فالتحقت به الأحزاب، ويعتبر هذا أكبر ضربة للساحة السياسية، إذ أن صاجب الدور السياسي تجرده من دوره، ولذلك للأسف دخل في الرئاسيات بسند ثلاثة أحزاب رئيسية: جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي وحركة حماس، حيث قدموا له ما يسمى بالبطاقة البيضاء، وهذا ما أصبح يسمى فيما بعد بالتحالف السياسي، وهذه الأحزاب الثلاثة لها وزنها ووعاؤها الانتخابي الكبير، وبهذا نحن نعتبر أن البداية للأزمة السياسية كانت من من هناك، يأتي شخص لا يعرفه أحد، اختفى عام 1981م ثمّ يظهر في عام 1999م، ويقال أنه هذا هو مرشح اجماع، فبدأ يطلق نفوذه على الكل، وأصبح الجميع تقريباً خلال عشرين سنة “خماسين”، كل واحد يقول: أنا في إطار مشروع رئيس الجمهورية، وبالتالي التصحر الذي وقع في عشرين سنة سببه هذا، فلما تتبنى السلطة الفعلية شخصا وهذا الشخص استمر في العبث بكلّ شيء، حتى وصلنا إلى الانسداد، وهذا الانسداد جعل النخب تتخلى عن واجبها، وبالتالي هذا ما يدفع بالشعب إلى التحرك، فإن لم يتحرك سيقع زلزال، يُذهب بهؤلاء ويأتي بمن يصلح هذا الحال.
عندما نتحدث عن الحراك الشعبي الجزائري، هذا الحراك الحضاري الممنهج الذي أبهر العالم بسلميته وبمختلف المبادرات الشبابية التضامنية والإنسانية، حدثنا أستاذ عن هذه النقطة التي أثبت فيها الشعب الجزائري للعالم عكس ما رُوج عنه ؟
الشعوب عامة لا يوجد فيها شعب غبي أو شعب ذكي، كما قال أحد المربين في أمريكا اللاتينية، هناك نخب قائدة، توجد شعوب عبارة عن محركات مفككة تبحث عن المهندس الذي يركبها، الشعب هو القائد الذي يركبها ويحركها، بالنسبة للشباب فالشباب دائما في أصله طاقة وهو المعبر الحقيقي والعرق النابض للمجتمع، إذا تحرك الشباب يعني هذا هو الاشعار بالخطورة، فإذا رفض الشباب رفض الشعب وإذا قبل الشباب قبل الشعب، لماذا؟ لأنه هو العنصر الأساسي هو الذي يحب ويكره في لحظات، مثله مثل جهاز الترمومتر درجته غير ثابتة، فالشباب هو المؤشر الحقيقي على وضع البلاد، لما نقول أن الشباب لا يعي ولا يعرف ولا يفهم، هذا الجرم ليس له في الحقيقة إنمّا للنخبة التي لم تصنع منه، ولم توجهه، ولم تنقل إليه التجربة، في الحقيقة نحن أحيانا نعيب على الشباب في بعض مصطلحاتهم، لكن أولاً نعيب على أنفسنا، لأنّ الشباب بطبيعته يتوارث التجارب، وجيلكم هذا في الحقيقة لسوء حظه جاء في فترة أزمة خلال التسعينيات، فالشباب هم من مواليد الثمانينيات، أي أنه لا يعرف الأزمة يسمع عنها فقط وربما لا يستطيع تصورها، هذا الجيل الذي تربى في هذا الجو، الجو الذي كان فيه جيلي مطارد، وفي السجن وخائف ومتردد، حيث كانت العائلة تربي أبناءها وهي خائفة عليهم، من يخرج يذهب إلى المدرسة لا يهم غن تعلم أو درس بقدر ما يهم أن يرجع سالما فقط، حتى المسجد أصبح تقريبا ممنوعا، لأنّ الشباب حاملي السلاح في الجبال ينتمون إلى المساجد، وبالتالي الشباب الذين عاشوا 10 سنوات أو 15 سنة، لم يأخذ التجربة في طبيعة عادية، من الإمام والمعلم في المدرسة ومن الوالدين، حيث كان يعيش في تجربته الذاتية، ولذلك نجد في الحراك الشعبي شبابنا رفضوا في البداية كل شيء، وبعد فترة، من شهرين أو ثلاثة بدأنا نرى الشباب يقتربون من النّاس الذين يثقون بهم، من قيادات ومثقفين، لكن للأسف الطبقة السياسية عندنا كانت أضعف من أنها تأطر الحراك أو تفيد الشباب، ومع ذلك تجارب رائعة يقوم بها الشباب من خلال تجمعات وتكتلات وكذا تنظيم لقاءات صحفية، وفيه أيضا أمور أخرى سنتحدث عنها في فرص أخرى، أمور داخل الحراك لم تكن بريئة، كان الناس كلهم يعملون، العصابة تعمل والمخابرات الدولية تعمل وأصحاب المصالح الخاصة يعملون، كما نجد مثلا من خلال هذا الحراك قد أنشأت مؤسسات اعلامية في لحظات، بتمويل جهات لا ندري من وراءها، كما أرسلت بعثات إعلامية إلى جهات في العالم، من أجل التكوين والتدريب، ونحن لسنا ضد التدريب، فهذا موجود في كل العالم، لكن أن تُرسل في لحظات معينة، وتتم اتصالات معينة من سفارات معينة، يبقى كل هذا بين قوسين، وستكشف الأيام عن الأمور التي نتمنى أن يحمي الله البلاد منها.
حدثنا عن دور الحراك الشعبي في التنشئة السياسية لدى الشباب أو في زيادة نمو الوعي السياسي لديهم ؟
طبعا دائما الشعوب أوعى من حكامها، فالشعب حر يعبر كما يريد، له تنظيماته في المجتمع المدني وفي الجمعيات الخيرية والثقافية، وفي الأحزاب السياسية، فكل هذا يساعده في زيادة وعيه، بينما السلطة تعيش صراعات تشغلها على ما ينبغي أن تفعله، وبالتالي تأخر عملية الاصلاح لا يعني أنهم لا يريدون الإصلاح لا إنما “مفروهاش بيناتهم” توجد مشاكل وصراعات بينهم داخل السلطة، أحيانا تخوف زائد على اللازم من القوى الدولية، أو تخوف زائد عن اللازم من الشعب، أو المستوى العلمي لا يؤهل هذه القيادات كي تستشرف المشكلات وتبحث لها عن حلول، وإذا اجتمعت هذه الأمور تصبح كارثة، مجتمعنا الاسلامي والعالم الثالث بشكل عام هذا هو نوعه وهذه هي أزماته، ولكن دائما نقول بأنّ النّخب من الاعلاميين والمجتمع المدني والسياسيين هؤلاء إذا لم تستطع النخب السياسية أو السلطة أن تستقطبهم، سيفقدون دورهم في المجتمع، ولا يستطيعون التأثير، وبالتالي ينعكس ذلك سلباً على المجتمع، أما المجتمع في الحقيقة هو دائما فيع خير كبير، بدليل أنه لم يسقط بوجود الدولة أو بعدم وجودها، حيث عشنا عشر سنوات تقريباً لم تكن لدينا دولة أصلاً، والشعب يعيش بتضامن وتعاون فيما بينه، وبالتالي المجتمع لم يتمرد فقط في الحراك، بل تمرد قبل ذلك بكثير، فمثلاً كان متمرداً خارج العاصمة وبالتحديد في طريق السريع عندما يقوم بإعلام من يسوقون في الجهة المعاكسة أنهم مقبلون على “رادار”، فهذا سلوك غير حضاري لكن الخلفية الثقافية عند المواطن هي أنه لا توجد دولة ولاقانون، وبالتالي الشعب هو عبارة عن أسرة كبيرة فلما يفقد المؤسسات الرسمية، يعود إلى أعرافه ويطبقها في الأسرة أو في الحي وفي الوطن، وبالتالي التمرد يبقى مختفيا أحيانا.
حدثنا عن دلالة الصور والشعارات التي تحدثتم عنها في كتابكم، والتي رفعها الشعب الجزائري في حراكه السلمي؟
في الحقيقة الشعارات فيها قسمين: شعار سياسي معبّر كـ”كليتو لبلاد يا السراقين”، “ترحلو قاع”، هذه الشعارات السياسية كانت تقريبا تعبر عن الموقف من النظام، الشعب يريد رحيل كل النظام، وتوجد من النخب للأسف اعترضوا على هذا وقالوا: كيف يرحلوا جميعا؟ وكيف نبقى بدون دولة؟ في حين أن التعبير الشعبي غير التعبير النخبوي، “يرحلو قاع” بمعنى أن يرحل جميع الفاسدين، هذا المعنى الذي قاله الشعب وهذه هي رسالته هي رحيل النّظام، لكن النخبة هي التي تفهم كيف يرحل هذا النّظام، أقل ما يقال أن تختفي كل رموز الفساد، في الحقيقة وبكل أسف نجد أحيانا تفسير النخبة أضعف من الجماهير، هذا فيما يخص الشق السياسي، أما الشق الثقافي والحضاري الذي يعبر عن عمق المجتمع الجزائري، في الحقيقة كان دائما محل إجماع مثلا: نوفمبرية باديسية وقيادة الجيش مع نوفمبري باديسي، هذا تقاطع عادي لا مشكل، نحن بالعكس نرحب بكل ما هو نوفمبريا باديسيا وهذا بطبيعة الحال يعبر عن عمق المجتمع، ولعل أهم وأروع ما كان عليه الحراك هو أنه لم يكن يعبر عن خط ايديولوجي، بل كان خط وطنيا عاما، وكانت العبارات السياسية بامتياز تعبر عن موقف جزائري وطني من السلطة ومن الفساد، وعن إرادة جامحة في التغيير، باعتبار أن الوطن لا بد أن يحدث فيه تغيير، هذا الوطن الغني من كل شيء والمحروم من كل شيء، فالحقيقة أن الحراك ينبغي أن يُثمن، ويُدرس دراسة جيدة لتُفهم رسالته.
حدثنا كذلك عن البلبلة التي أحدثتها دعاة الجهوية والعنصرية بخصوص الراية الأمازيغية، والتي رغم ظهورها في ساحة الحراك لم يتضايق منها الحراكيون باعتبارها رمزا للثقافة؟
نعم في بداية الحراك ظهرت الراية الأمازيغية، وكانت مستهجنة من البعض، لكن قالوا مادام أنها رمز للثقافة فلا بأس، اذ لم يتضايقوا منها، ولكن في الحقيقة هناك بعض الجهات استغلت هذا الأمر، وأرادت أن تفرضه كطرف، كما وقعت بعض الاشتباكات بين مجموعات من الشباب، حيث أن بعض المناطق البعيدة جدا عن العاصمة وصلتها هذه الراية الأمازيغية، وبالتالي هذا كان كان خطرا على الوطن، خاصة في الشهرين الأولين، حيث بدأت تظهر رايات أخرى تعبر عن ثقافات أخرى من ثراء المجتمع الجزائري، كالراية النايلية بالجنوب وراية الشاوية في باتنة، وهذا بطبيعة الحال كان خطرا على البلاد، ولذلك حتى وإن كانت لدينا رايات تعبر عن شيء معين لا ينبغي أن تظهر في قضايا وطنية كبيرة، تحسبا لأي انزلاقات قد تحدث، والحمد لله يبدو لي أن الأمور في هذا الاتجاه جرت بشكل طبيعي، وكلّ النّاس تفهموا إلاّ من يريد الشر للبلاد، فنحن في حراك سياسي ليس في قضية أخرى نظهر ثقافاتنا، الجزائر مليون ومئتي ألف كيلو متر مربع، فيها من الغناء الثقافي ما لا عين رأته ولا أذن سمعت، من خلال ثقافاتها ورموزها وشخصياتها، نحن لسنا في سباق من أجل اظهار هذه الخصوصيات المناطقية، وإنما نحن في قضية وطنية نريد استبدال نظام فاسد بنظام صالح، فهذه كلها قضايا ثراء، كما نجد تشابها عجيبا فالمصطلحات بين منطقة القبائل والجنوب مثلا، حيث توجد قرية في منطقة القبائل تسمى “تكسلت” وفي الجنوب القرية التي أسكنها تسمى “تكسلت”، منطقة أخرى في القبائل تسمى “تاغزوت”، أيضا في الجنوب بعيدة قليلا عن قريتنا قرية تسمى “تاغزوت”، أيضا كلمة “تاغنجاوت”، بالأمازيغية والتي تعني الملعقة، ونحن نقول “غنجاية” في واد سوف، يعني يوجد تداخل وتمازج كبير بين اللهجات وبين الشعب الواحد، وكما قال العلامة عبد الحميد ابن باديس رحمه الله: “أبناء يعرب وأبناء مازيغ تمازج دمهم” وبالتالي: وما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان، وهذا الأمر ينبغي الانتباه إليه فحتى في ديننا الله سبحانه وتعالى أوجب الصلاة وحرمها فيه بعض الأوقات، فمثلاً بعد صلاة العصر لا يجوز التنفل، وبالتالي هذه الراية كان ينبغي أن لا ترفع في مثل هذه القضايا لا يعني هذا أن ليس لها مبرر ثقافي، إنما ليس هذا زمانها.
ظهرت في مواقع التواصل الاجتماعي صفحات للذباب الالكتروني أو الوباء الرقمي الذي فشل في محاولة تيئيس الشعب واحداث فوضى وجهوية بين الشعب الواحد؟
طبعا يفشل، فكما وُجد الذباب الالكتروني يوجد أيضا “فليطوكس الكتروني”، هذه الوسائل تتنوع، فتنوع وسائل الفساد تتنوع أيضا وسائل الإصلاح وبالتالي ما سعى إليه هذا الذباب للتشويش على المجتمع واجهته مباشرة ردود بنفس السرعة، وطبعا هذا العالم الافتراضي هو وسيلة ليناضل من خلالها كل شخص على فكرته، هؤلاء الشباب الذين أطروا الحراك وقاموا بمواعيد وتعليمات كانت عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي وبالتالي أصبح الجدار غير قابل للاختراق، لديه نوع من القوة ونوع من المتانة والقدرة على الحماية الذاتية، أو جهاز مناعة قوي بحيث لا يترك للمتسللين مجالا حتى يدخلوا فيه
ماهي المكاسب التي حققها الحراك الشعبي منذ 22 فيفري الى يومنا هذا؟
في الحقيقة نتكلم عن المكاسب لما تنتهي العملية وينتهي الحراك، لكن تقييمنا لهذه الفترة من الحراك، هذه الفترة التي أسقطت العهدة الخامسة وهذا مكسب مهم جدا، لأنه كان خطرا على الوطن لو استمرت تلك العهدة، وكانت سترتكب جرائم في حق الشعب لا أول لها ولا آخر وأيضا قضية قلب مستويات النظام، وربما هذا استجابة لضغوط خارجية، كذلك انكماش هذه العصابة التي كانت تعبث سواء في جانبها المالي أو جانبها السياسي والعسكري، حتى أننا كنا نتخوف من تصريحات ضابط سامي سابق كان من الذين أجرموا في حق الشعب، أيضا ما تحقق على مستوى الوعي السياسي، أنا أتوقع أن تكون طبقة سياسية جديدة في البلاد؛ لأنّ الذين كانوا وكأنهم ضعفوا في عطائهم السياسي، لم يرتقوا إلى مستوى الخطاب السياسي الجديد، وهذا الشباب الذي ظهر في الفضائيات وظهر في أنشطته الإعلامية يمكن أن يكون هو الطبقة السياسية والبداية المرجوة، لكن دعما فقط أن لا يحمل لهم الفيروس القديم.
ماذا عن الأكذوبة السياسية والإعلامية التي سببها الإعلام في حق رموز وأبطال الثورة مثل المجاهد “لخضر بورقعة”؟
المجاهد لخضر بورقعة معروف من أبناء المعارضة، ومن المجاهدين الذين لم يرضوا بالفترات السابقة، والحقيقة حتى ولو افترضنا أنه ارتكب خطأ أو قال شيئا لم يعجب أطراف السلطة، كان ينبغي أن يشفع له ماضيه الجهادي، ومع ذلك لماذا يبقى هكذا، اذا كان لابد من محاكمته فليحاكم واذا كان تسريح فليشفع له ماضيه ويعفى عنه، وفي الحقيقة كرأيي الشخصي اعتقال رجل مثل هذا وفي هذا السن وبهذه المكانة في الجزائر ما كان ليحدث أو أن يتصرف معه هذا التصرف، ونسأل الله أن يفك أسره، فالرأي السياسي بخلفيات قد تختلف من موقف لأخر، لكن التصرف مع الرجل بهذه الطريقة خاطئ.
حدثنا أستاذ عن رسالتك التي كتبتها تدعو فيها أحمد طالب الابراهيمي للتدخل؟
سي أحمد طالب كان طبعا رجل إجماع فلما ترشح مع بوتفليقة كان هو ومجموعة أخرى متكونة من ستة مترشحين، انسحبوا لما علموا أنّ السلطة لا تضمن انتخابات نزيهة وشفافة، وكان أحمد طالب صاحب فكرة الانسحاب، حسب ما قاله لي بنفسه، وعلى الرغم من أنه انسحب إلا أنّ النّاس انتخبوا عليه، وقد تحصل على مليون ومائتي صوت، هذا كان عام 1999م، وبالتالي الكثير لا يعرفونه كرمز ومكانة وربما فقط سمعوا من آبائهم ومحيطهم، وقد رفعت صوره في الحراك على مستوى الولايات كلها، فكتبت رسالة: نداء الجزائر لأحمد طالب الإبراهيمي وطلبت منه الاستجابة لهذه الرسالة، لماذا؟ لأنّ قبلها زرته مرتين أو ثلاثة ورفض قائلا: سني وصحتي لا يسمحان لي، قلت له: يا أستاذ أحمد أنا أحترم رأيك، لكن رأيي أن الناس يطلبونك في مرحلة انتقالية وليس الترشح لرئاسيات، ونداء الشعب لا يُرفض، ومع ذلك بقي في نفسه شيء، كما هناك آخرون طالبوا منه لكنه بقي مترددا، فكتبت له هذه الرسالة وقلت له فيها: “والدك رحمه الله محمد البشير قال له ابن باديس: يا بشير إن خروج مثلي ومثلك من الجزائر يعد هروبا من الزحف يوم القيامة”، وأنا أقول لك: “رفضك لنداء الشعب سيأتي جميع فضائلك التي يعرفونك بها”، فرجوته أن يتدخل، وبالفعل استجاب لكن للأسف وقع خلل، حيث أنه وضع رسالة نداء توافقي مع علي يحي عبد النور وبن يلس، واعتبرها شباب الحراك أنها سلبية قالوا له: “دعوناك أنت لا تأتي بآخرين”، فقرأها الحراكيون قراءة سلبية، فهدأنا من روعهم، بعد أن كانوا بصدد وضع لافتات يضادونه، فحذرناهم حيث أن من ليس فيه الخير لن يكون فيه الشر، وبعد ثلاثة أيام أصدر رسالة له، وكانت في الحقيقة أرقى، لو كانت هي الأولى لكان أفضل، وبالتالي صدقوا ما قلنا لهم: بأن الرجل له مكانة، وليس من المنطقي التهجم عليه فقط في رسالة واحدة.
ما رأيكم في لجنة الحوار المرفوضة من أغلبية الشعب؟
في الحقيقة مطلب الشعب واضح جدا، كان من الممكن تجاوزه لو صادقت النوايا، بكلّ أسف أنّ هذه اللجنة التي أنشأت في ظروف كانت سريعة جدا، وأيضا لم تكن هناك مشاورات حولها، لأنّنا كنا نقول أنّ نجاح الحوار يجب أن يديره مجموعة من طراز معين ذو مستوى معرفي وتجربة وخبرة ومصداقية عند الشعب، لم نستطع أن نختار 10 أو 15 أو 20 شخص ممن يزكيهم كلّ الشعب الجزائري، هؤلاء الأشخاص موجودين ولكن لم نبحث عنهم، أو حتى إذا بحثنا عنهم ووجدناهم واختارهم الشعب ربما السلطة سيكون لها تحفظ عليهم، للأسف كلف أشخاص أو شخص واحد حتى يعمل مجموعة واختيرت من هذه المجموعة ستة، في الحقيقة وبكل أسف هذه اللجنة وبهذه الصفة ليست مؤهلة، وإن كانوا يقولون قدمنا مطالب، ولابد من توفير أجواء لإنجاح الحوار و…. هل إذا لم يستجاب لهذه المطالب هل سيتوقفون وينسحبون لا ندري، لكن بكل أسف الجو ليس مناسبا لاجراء انتخابات أو اجراء حوار حول انتخابات نزيهة ومضمونة.
حديث الشارع اليوم هو حول ما ستأتي به الأيام القادمة من أحداث ستصنع الخمسين سنة القادمة، هل يمكن أن نقول أن وضع البلاد بعد خمسين سنة مهما كانت لن تكون أسوء من خمسين سنة الماضية؟
يستحيل أن تكون أسوء، قراءتنا الآن للاستراتجيين والمستشرفين يقولون: أن فرنسا بعد خمسين سنة ستصبح بلدا إسلاميا وقال أخر أن الدولة الاسلامية ستكون في أوربا خلال الخمسين سنة القادمة، الآن الطاقات الموجودة في الجزائر وفي المغرب العربي بشكل عام، هي طاقات جديدة وطاقات شابة طموحة، نحن في عالم مفتوح وليس عالما مغلقا، مفتوح على مصرعيه لجميع الناس إلاّ من أبى، إذ الفرص في المجتمع الجزائري ستقفز قفزة نوعية ان شاء الله، خلال الخمسين سنة القادمة، أنا لست استشرافيا لكن أملي في الله سبحانه وتعالى كبيرا، ففي الفترة السابقة رأينا كيف تحولت الجزائر من وضع إلى وضع أخر عندي أمل كبير وإيمان بأنّ الجزائر سيكون لها الكثير مما عليها الآن حتى في العشرين سنة المقبلة إن شاء الله.
شكرا لكم أستاذ، كلمة ختامية لشباب الجزائر ؟
أنا والله في الحقيقة أحث شبابنا على القراءة والمطالعة، ليرفعوا مستواياتهم العلمية حتى الاحتراف، لأن التكوين المهني طريق إلى التكنولوجيا، فكيف نكون مجتمعا صناعيا متقدما علميا إذا لم نمر بالاحتراف في كلّ شيء بداية من العامل البسيط إلى المتخصص والمخترع، حتى ننهض بالبلاد، لا بد من الشباب أن ينهض لا يقلل من شأنه ويقول ليس لي مستوى، أقول له: بمستواك تستطيع أن تقوم بالشيء الكثير، اهتم فقط بالتكوين الأكاديمي، تعوّد على الممارسة، الجانب العلمي دائما له رصيده، الانسان هو كائن اجتماعي مدني لا يمكن أن يعيش بمفرده، وبالتالي على شبابنا أن يفكروا دائما أنهم يعيشون في وسط الجماعة، في الأسرة في الحي في البلد، بمعنى عندما تُفكر في مصالح جماعية فكر بنفس المنطق في إطار مجتمع، فكر أنك اذا آذيت وطنك ستأذي نفسك أيضا، وبالتالي إن جوهر الاهتمام بالشأن العام هو الذي يغير الأنظمة، المجتمع هو الذي يربي الدولة ويربي الإدارة وبالتالي الشعب هو الذي ينبغي أن يقلب المعادلة وتصبح السلطة خادمة لديه، فالدولة مؤسسة خادمة للشعب وليست هي المهيمنة، فإذا كانت لديها مسؤولية فهي مسؤولية التسيير وليست الاعتلاء فوق كلّ شيء.