القرآن بين خشوع العقلانية ودموع الدروشة / عبد العزيز كجيل
عبر الحفظ والتلاوة والتدبر يبني القرآن الكريم الإنسان بناء منهجيا محكما، بكلمة مختصرة يبني الإنسان السوي: ” فإذا سوّيته”—”ونفس وما سواها”—”الذي خلقك فسواك”، إنسان يستحق أن يكون مسلما، إنسان يرفض رفضا قاطعا العبودية لغير الله والوثنية مهما كان شكلها رفضه للاستسلام والنفاق والخلّف الذي ينتج الفقر والجهل والمرض.
هذه ثمرات كتاب الله ومقاصده لأن الإنسان السوي هو وحده صاحب العبادة الحقّة الذي ينهض بتكاليف الخلافة والعمارة.
هذا يقودنا حتما إلى فتح ملف الخشوع والبكاء والفاعلية.
هل دموع القارئ للقرآن هي دائما علامة صحية؟ البكاء عملية تطهير وجدانية تثير الذهن والحواس، ذلك هو البكاء الخاشع نرى أماراته في قول الله تعالى ” لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله” ..المتعامل مع كتاب الله متأثر وجدانيا من جهة ومتصدع من الجهة الأخرى أي يتدفق منه العطاء تدفق الماء الذي يعطي الحياة، هناك تفاعل حي لا يقتصر على تحريك النفس داخليا وإنما يمتدّ إلى التأثير العملي في صور حركة في الحياة الدنيا، وهذا ما يمكن أن نسميه “خشوع العقلانية” لتمييزه عن خشوع الدروشة (بحسب تعبير د.عبد الحامد فك الله أسره)، ويمكن التماس خشوع الدروشة عند تلك الفئة التي اتخذت القرآن الكريم مخدرا يسلب الناس عقولهم وحوّلته إلى كتاب رهبنة وسلبية وانكفاء وانسحاب من معترك الحياة…نعم، هؤلاء يذرفون الدموع عند التلاوة أو الاستماع لكنها دموع باردة لا تغيّر حالا بل تجعل أصحابها يزدادون تقهقرا، ويدخل في هذا المجال بكاء الراسب في الامتحان الذي يقع في الجزع ويُغمى عليه…إنه بكاء التهرب من المسؤولية بدل استمداد طاقة جديدة لاستكمال النقص.
أتدرون سبب نزول الآية “تولوا و أعينهم تفيض من الدمع”؟ هو أسفهم على عدم التمكن من الخروج للجهاد لقلة التجهيز “– وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ“ – سورة التوبة 92.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم أرباب خشوع ودموع وهم في ذات الوقت نماذج للإبداع والأداء الممتاز، يتحكمون في عواطفهم تحكمهم في سلوكهم، وها هو أبو بكر رضي الله عنه- وهو رجل بكّاء- لم يفقد توازنه عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالخشوع إذًا محمود ومذموم تماما كالصبر:جميل وقبيح، وبالتالي الفرق واسع بين دموع النفوس الخاوية والنفوس العاملة، خشوع الدروشة يتمثل – مثلا – في الإخبات في المناسك وحدها أما خشوع العقلانية فيصاحبه النشاط والحيوية و بناء الحياة بكل أشكالها وصورها، وهذا سرّ مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين: يا أصحاب سورة البقرة، فرجعوا بعد الفرار من هول الكمين الذي نصبه المشركون وصنعوا النصر…إنهم أصحاب البقرة تلاوة وفهما وتفاعلا وعملا في الميدان.
فهل نفقه المعنى الحقيقي والأبعاد المقاصدية للحديث النبوي “عينٌ بكت من خشية الله” ؟
وهناك ما هو أسوأ من خشوع الدروشة ألا وهو دموع النفاق وخشوع النفاق، ومن أبرز صوره:
– البخيل الذي يلازم القرآن ويبكي عند التلاوة والاستماع ..ولا ينفق على فقير ولا محتاج.
– الخامل القاعد الذي لا تنقله التلاوة والبكاء إلى النشاط والعطاء.
– المتشائم القانط الذي لا يتراءى له من كتاب الله سوى آيات الترهيب وأحاديث الفتن، لا تفتح له التلاوة أبواب الأمل والتفاؤل الموصدة فيلجأ إلى دموع لا تزيده إلا هما وغما.
هكذا هو خشوع النفاق: جسد خاشع وقلب غير خاشع.
ختاما ليس القرآن كتابا للأفراد بل هو دستور الجماعة والأمة، ووظيفته العلاجية لا تأخذ شكل الرقية فقط – وهو تعامل أقرب إلى السذاجة مع كتاب الله – بل هي وظيفة شاملة للأفراد والمجتمعات المصابة بالتردي الروحي والحياتي.