لن يكون الخليج علمانيا/ التهامي مجوري
إن التصريحات التي أدلى بها سفير الإمارات العربية المتحدة في أمريكا، تعد سابقة في المنطقة، وإلى عهد قريب لم يكن بإمكان أحد من الناس أن يصرح بمثل هذه التصريحات، كائن من كان، مما ينبئ أن المنطقة مقبلة على تحولات غير عادية، لا سيما ومنطقة الخليج تمر بمرحلة حرجة، وأوضح ما يميزها الإرادة المبيتة لتفكيك هذه المنطقة التي تعد من أكثر المناطق العربية والإسلامية تماسكا.
قال سعادة السفير يوسف العتيبة: “لو سألت الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين، ما هو الشرق الأوسط الذي تريدون رؤيته بعد عشر سنوات؟ سيقولون لك: ما نريد أن نراه هو حكومات علمانية مستقرة مزدهرة وقوية”.
الغريب في هذا التصريح أننا لا نعلم له رصيدا في الثقافة الخليجية، إلا ما كان من جدل طبيعي بين النخب الخليجية الليبرالية التي تناضل منذ أمد، ومن أجل التخلص من طبيعة الأنظمة التقليدية القائمة في الخليج ومستنداتها الدينية، وأعرافها التقليدية، وعلى رأس كل ذلك مصدرية الإسلام ومصدريته في الشؤون كلها، وفي عمق هذه النخب أنها علمانية التوجه تريد التخلص من الخلفية الإسلامية أكثر من معاداتها لطبيعة النظم التقليدية، ولذلك لم تعرها الأنظمة الخليجية القائمة اهتماما؛ لأنها تفترض فيها معاداة الإسلام، الذي يعد ركنا ركينا في هيكل الدولة الخليجية، على تفاوت بين القائمين على هذه الدولة وتلك.
لا شك أن تصريح سعادة السفير لا يمكن أن يكون من فراغ، وإنما له دلالاته، في ما تشهده الساحة الخليجية من تقلبات: العلاقات الخليجية فيما بينها، العلاقات الخليجية الأمريكية، العلاقات الخليجية الإيرانية، أثر هذه العلاقات المتشابكة بما يجري في الشرق الوسط…إلخ.
ولذلك حاول سعادة السفير تعويم هذا التصريح في إطار كلية أكبر وهي الخلاف مع قطر عندما قال: “إن خلافنا مع قطر فلسفي أكثر منه دبلوماسي”، أي أن قطر دولة تقليدية محافظة، ودول الحصار التي تتكلم على لسانها دول حداثية أو تطمح لأن تكون حداثية عصرية، في حين أن مجموعة دول الخليج كلها تتشابه في كل شيء، في اللغة واللهجة والمظهر الخارجي، وفي الطبيعة والمناخ ونظام الحكم، والتقاليد والهوايات الممارسة. وأكاد أقول أنها تتشابه في أطباق الطعام المتوارثة…إلخ. فبمجرد التشابه بين دول الخليج ينفي كل تمايز بينها، فدول الخليج إما متخلفة كلها أو حداثية عصرية كلها.
وحتى لا يصنف كلامنا هذا في خانة معارضة جهة أو موالاة أخرى، لا بد من تقديم شهادة يلمسها كل متابع لما في الخليج من تحولات، وهي أن دول الخليج تتمايز فيما بينها، في قربها من الحداثة وبعدها عنها، ففي الجانب السياسي مثلا تجربة الكويت أقرب إلى الحداثة حيث توجد بها طبقة سياسية تمارس السياسة، معارضة وموالاة، وتجربة الإمارات أقرب إلى الحداثة في “البزنس”، فالإمارات كلها – بناياتها، شوارعها، مطاراتها، موانيها..إلخ – عبارة عن حركة خدمات تجارية ضخمة، أما قطر التي يعتبرها سعادة السفير متخلفة ربما هي الأكثر تطورا لفهم الحداثة واستثمارها، وذلك بإنشائها لقناة الجزيرة، وإحداثها للحراك الثقافي الذي تشهده الدوحة طوال السنين، بحيث أصبحت منتدى ثقافيا سياسيا، وكذلك للسعودية والبحرين وسلطنة عمان خصوصيات لا نريد الخوض فيها عبر هذه المساحة المحدودة.
وفي ما عدا تلك الاجتهادات المميزة لكل دولة عن الأخرى وهو جزء اليسير، إذا ما قيس بمجموع مكونات المجتمع، فإن الطابع المهيمن على الخريطة الخليجية هو الثقافة الخليجية التي تمثل عمق وحدة الخليج، وأساسه القبيلة والدين.
أما القبيلة فالمجتمع الخليجي مجتمع قبلي، يحكمه نظام القبيلة، قبل كل شيء، ونقصد بنظام القبيلة، ليس التعنت الجاهلي العنصري، وإنما نقصد اللحمة التي بين أفراد القبيلة الواحدة، التي تحكمها علاقة الرحم المستمدة من التماسك والتواد والتراحم، وهي التي أطلق عليها العلامة عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله “العصبية”، ابتداء من العائلة التي تحكم، وانتهاء بأقل عرش أو فخذ من الأسر الممتدة عبر ساحة الخليج الواسعة، بحيث يوجد أفراد العائلة الواحدة في أكثر من دولة، وإذا أقيم عرس في دولة من دول الخليج فإنه يقام وكأنه عرس متعدد الجنسيات.
وأنا هنا لست بصدد تقييم نظام الحكم في هذه البلدة أو تلك، وإنما أعرض ذلك في إطار مناقشة مدى صلاحية ما يدعيه سعادة السفير فقط، من أن طموح المنطقة هو السعي وراء العلمنة !! في مجتمع لا يفكر في ذلك أصلا.
فالأنظمة الخليجية تحكمها أسر منذ عشرات السنين: آل الصباح وآل سعود وآل نهيان، وآل خليفة وآل ثاني وآل بوسعيد، ولم يلاحظ عن هذه المنطقة حراك لرفض هذه المنظومة، وكل ما يثار هنا وهناك في بعض هذا الخليج المتعدد الإمارات، يدور حول محاربة الفساد وأهله في إطار مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن الوجهة الدينية، فإن طبيعة القبلية لنظام الحكم والنظام الاجتماعي العام، في العرف الخليجي لا يقبل التهميش بسهولة، ولذلك نستغرب هذه الإدعاء من سعادة سفير الإمارات !!
لقد برر السفير دعواه بمغايرة ما تريد قطر، وهذا وحده لا يكفي؛ لأن ما بين قطر وخصومها في دول الخليج، لا يعتبر خلافا جوهريا فحسب، بل هو خلاف سياسي آني يمكن تجاوزه بشيء من التعقل والحكمة –وسيتجاوز بإذن الله-؛ لأنه خلاف غير طبيعي. ولذلك نتوقع حراكا قويا للرد على هذه الدعوى؛ لأن مبرراتها غير واقعية، ناهيك عن طبيعة المنطقة الرافضة بالقوة وبالفعل هذا المسلك الذي يشتهيه سعادة السفير، ومن المتوقع أن النخب السعودية هي أول من سينتفض، مهما كان من بعض السعوديين الذين رحبوا بهذه الدعوى غير المتناغمة مع طبيعة المجتمع الخليجي، وأعرافه وعاداته المتجذرة، فضلا عن تمسكه بدينه الإسلامي الحنيف، الذي يرفض الفصل بين الدين والدنيا، وبين الروح والمادة.