حديث في السياسة

ما يبقى من الباجي القايد السبسي؟/ التهامي مجوري

عندما أُعلن عن وفاة الرئس التونسي الباجي قايد السبسي في الأسبوع الماضي، تذكرت مقالا كتبه الصحفي الفلسطيني الكبير الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي في مجلة المستقبل التي كانت تصدر بباريس، بعنوان “آخر الطغاة وأصغرهم”، بمناسبة وفاة الرئيس الأسبق لتونس لحبيب بورقيبة، وقد أعجبني المقال يومها لدقة الوصف والقدرة على وضع الموصوف في مكانه وقدره، وذلك باعتبار أن الرئيس بورقيبة طاغية من طراز الطغاة الكبار، أمثال هتلر ولينين وموسيليني وعبد الناصر.. وغيرهم من الطغاة الذين شهدهم العالم وشهد عليهم بذلك، ولكنه أصغرهم؛ لأن بورقيبة مهما علا وارتفع في العبقرية والذكاء والطغيان، فإنه لن يتجاوز في الكبر حجم بلاده الصغيرة.

وصغر البلاد هنا ليس معرة، وإنما في معيار العلاقات الدولية، أن البلد الصغير لا يكون له من الحجم إلا المقدار الذي يؤثر به على الساحة الدولية، ولا يراد من النعت للشقيقة تونس الاحتقار والاستصغار، وإنما المراد هو صغر الحجم فقط ليس أكثر، وعلى هذا الأساس فهمنا موضوع الأستاذ النشاشيبي، وعلى ضوئه نتكلم عن الرئيس القائد السبسي.

ولكن ما لم يهتم به الأستاذ النشاشيبي هو أن الطغيان شرٌّ كله كبيرا كان أو صغيرا؛ لأنه من القيم القابلة للتعدي وليست قاصرة على صاحبها، لا فرق فيه بين الصغير والكبير، لأن الطغيان في جوهره ومساراته مدرسة تعلم وتربي؛ بل وتورِّث قيمها ومناهجها كما تورث التركات.

والطغيان البورقيبي قد نتف منه زين العابدين بن علي نتفا؛ لأن أنانيته وطبيعته العسكرية لم تسمح له بأن يبقى على نهج بورقيبة ويستفيد منها في فرض شروره، وإنما أبدع في الطغيان وأوجد صيغا لا تخطر على بال شيطان، بحيث جلب من المآسي على الشعب التونسي ما جعلهم يترحمون على بورقيبة؛ لأن بورقيبة كان طاغية، ولكنه في نفس الوقت كان يشتغل بمنهجية استيعاب الشعب واستدراجه إلى ما يحب، بحيث لا يقدر على مواجهته إلا من أدرك منهجيته الجهنمية.. ولذلك كان نظام بورقيبة هو النظام الوحيد في العالم العربي الذي لم يكن عسكريا، وهي من الفضائل التي جعلت من الجيش التونسي في ثورة الشعب على بن علي ينزل إلى الشارع ولكن ليحمي الشعب لا ليواجهه؛ لأن بورقيبة كان سياسيا واستبعد العسكر من الساحة السياسية ومن تأثيره على الحكم، كما كان نظامه التعليمي من أكثير الأنظمة نجاحا في أوساط العرب جميعا، ليس لتميزه العلمي والأكاديمي، وإنما لكونه منهجا متناغما مع خطته السياسية التي اعتمدت تعليما مدنيا لا يراعي خصوصيات المجتمع، فأفاد المجتمع التونسي بحرصه على تعليمه، وأخفق بورقيبة في غاياته التغريبية.

فلم ينجح بورقيبة في تغريب المجتمع، ولكنه ضمن مستوى من التعليم يمكن الشعب التونسي من جودة التحصيل بفضل البيداغوجيا، مع الحفاظ على خصوصية المجتمع بفضل ثقافته العربية الإسلامية التي لم تستطع اختراق بما تبث من مادة تعليمية تغريبية.

والرئيس السبسي من هذه المدرسة البورقيبية ولعله آخرها، ولكنه في اعتقادي يمثل نسخة مشوهة للمدرسة البورقيبة، وربما لجأ إليه الشعب في انتخابات ما بعد الثورة انتقاما من عهد بن علي الذي أهلك الحرث والنسل، وممن جاء بعدهم من الذين ليست لهم التجربة الكافية في إدارة الشأن العام التونسي وإن كاونوا يملكون المصداقية والكفاءة الأكاديمية والمعارضة المزمنة، مثل منصف المرزوقي وحركة النهضة لما بينهما من تناغم وتفان في خدمة الشعب التونسي.

فالسبسي لم يستطع الحفاظ على أصول المدرسة البورقيبية، وعجز عن الارتقاء إلى مستوى المجتمع التونسي الجديد ومطالبه، فراح يخبط خبط عشواء، بحيث لم يستطع أن يحافظ على لون واحد خلال تربعه على كرسي الرئاسة لسنوات خمس.

إن باجي قائد السبسي، كفاءة علمية ولا شك فهو محام ورجل قانون، وسياسي مخضرم حيث تقلد مناصب سياسية كثيرة، ومع ذلك اختفت جميع هذه المزايا سواء كإطار علمي وسياسي، أو كمدرسة قادت البلاد عقودا من الزمن، ولم يظهر منها إلا الشكل السياسي، الذي اكتسبه الرئيس السبسي خلال مساره في دواليب السلطة.

أما محتوى الخطاب السياسي والمستوى القيادي فلم يظهر منه شيء… فعلى سبيل المثال أثناء الجدل الذي أثير منذ مدة حول مدونة الأحوال الشخصية، قال بلا تردد مرجعنا هو الدستور، وليس الشريعة الإسلامية والقرآن.. فمن أراد أن يورث تركته بالتسوية بين ابنه وابنته فله ذلك، ومن أراد أن يورثهما وفق الشريعة الإسلامية فله ذلك، وقياسا على ذلك من أراد أن يخرج عن هذين التوجهين فله ذلك… يعني أن الباجي القائد السبسي لا يريد أن يغضب أحدا.. فهو يحتكم إلى الدستور فقط ومن أراد أن يخرج عن الدستور ويحكم القرآن فله ذلك ومن أراد أن يكفر بالقرآن فله ذلك.. تلك هي ديمقراطية الباجي القائد السبسي، وذلك ما بقي منه في هذه الحياة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com