التعليم وقاعدة النهوض الحضاري/ عبد القادر قلاتي

إن التعليم الجيّد هو عنوان التطور في الدولة الحديثة، ولا توجد دولة عرفت نهضة اقتصادية وسياسية في عصرنا، إلاّ وكان التعليم هو المحرك لهذه النهضة. فالحضارة الغربية لم تقم كما هو شائع على منطق الصراع الديني، وإنمّا قامت -النهضة الغربية- على منطق العلم، وهو واضح في تاريخ الغرب المعاصر، فعندما حلّ الغرب معضلة السياسة، وتوصل إلى المفهوم القائم على فصل السلطات في إطار النظرية السياسية الحديثة، توجه مجهوده أولاً نحو بناء نهضة علمية في كلّ التخصصات، سواء منها العلوم الإنسانية أو العلوم الدقيقة؛ وعرفت الجامعات الغربية نهضة علمية كبيرة، فكان لها الدور الرئيس في كثير من التحولات الفكرية والسياسية الحديثة، وليس في الغرب وحسب، بل تعداه إلى العالم كلّه.
وعندما اختارت بعض الدول سياسة النهوض بشعوبها وبناء دول حديثة، أدركت سرّ الحضارة الغربية، فذهبت مباشرة للتعليم كقاعدة للنهوض والبناء، فأعطت أهمية كبيرة للتعليم، فبنت المدارس والجامعات، واختارت بعناية فائقة النخبة العلمية التي أدارت عملية التعليم، وفي ظرف قياسي تمكنت هذه الدولة من النهوض، وصناعة التجرية الذاتية التي صيرتها دولاً متطورة، فتجربة ماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورا، وأخيرا تركيا التي تشكل في الوعي العربي والإسلامي الأنموذج الأقرب لواقعنا، لجملة من الأسباب، أوضحها الارتباط الحضاري والجغرافي، ثمّ القرب الزمني.
فالدولة التركية العلمانية كانت إلى وقت قريب، دولة متخلفة اقتصاديا، ولا تظهر عليها أي بوادر للنهوض الاقتصادي، فكانت تجرية العدالة والتنمية –بحق- نقطة البداية لمسار سياسي واقتصادي جديد عرفته هذه الدولة الكبيرة، التي كانت إلى وقت قريب إمبراطورية شاسعة المساحة والامتداد في العالم، لم يتقلص نفوذها إلاّ بتكالب الغرب الاستعماري.
إنَّ قصة التعليم في تركيا تلخص الكثير من التحليلات في قراءة التجربة النهضوية التركية، فقد أعطت الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية، الأولوية للتعليم في جميع المراحل، مع العناية الخاصة بالتعليم الجامعي، فقد “ارتفع عدد الجامعات في تركيا قبل 12 سنة من 76 جامعة إلى 180 جامعة حاليا. ويتجاوز عدد الطلبة الجامعيين في تركيا أربعة ملايين طالب، من بينهم أكثر من 50 ألف طالب أجنبي. كما يزداد عدد الطلبة الأجانب والوافدين إلى تركيا، ومع بداية كل سنة دراسية جديدة. وأما لغة التدريس فأغلب الجامعات تدرس باللغة التركية، لكن هناك العديد من الجامعات الحكومية وفي تخصصات محدّدة تدرس باللغة الإنجليزية، بينما معظم الجامعات الخاصة تدرّس باللغة الإنجليزية؛ وقد تم تخصيص مبلغ 11,5 مليار ليرة للجامعات لسنة 2011.
وتم اختيار ست جامعات تركية ضمن قائمة أفضل 500 جامعة في العالم. (جامعة الشرق الأوسط التقنية 375، جامعة إيجة 467، جامعة حجة تبة 489، جامعة غازي 493، جامعة أنقرة 496، جامعة إسطنبول 497. وتخطط تركيا خلال آفاق 2023م بأن تكون لديها 500 جامعة على مستوى الجمهورية”.
كما قامت الحكومة التركية بإطلاق مجموعة من المشاريع العلمية أهمها:
“مشروع الفاتح: أُطلق هذا المشروع في تركيا عام 2012م، بمبادرة من رئيس الوزراء التركي حينذاك “رجب طيب أردوغان” حيث أعلن عن مشروع تعليمي جديد يتم من خلاله الانتقال بالتعليم المدرسي التركي إلى العالم الرقمي. وبدأت الحكومة بتوزيع لوح حاسوبي I-pad على 15 مليون طالب ومليون مدرّس مجانا، وقامت بتركيب ألواح ذكية في 260 ألف صف مدرسيّ، وقُدّرت كلفة المشروع بـ7 مليارات دولار.
وقال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عند إطلاقه المشروع، إن اسم “مشروع الفاتح” جاء تيمّنا بالسلطان العثماني “محمد الفاتح”؛ حيث سيتم من خلال المشروع الانتقال بالتعليم المدرسي التركي إلى العالم الرقمي.
ويوفر المشروع للطلاب تسهيلات كبيرة، فبدلا من أن يحملوا كتبا كثيرة، يحملون موادهم وأخرى معها في جهاز إلكتروني صغير الحجم كبير الأداء. كما يتيح لهم استخدام كل ما هو متوفر من موسوعات وبرامج تعليمية بكافة أنواعها وأشكالها عبر الإنترنت. وتوزع عليهم إدارات المدارس مناهج إلكترونية، وفيديوهاتية وصوتية، وفي مجالات التقنية مختلفة الأبعاد، لشرح وتوضيح السهل والمعقد من مواضيع ومواد المراحل الدراسية للطلاب في المدارس التركية.
كذلك فإن “مشروع الفاتح” هو مشروع يهدف إلى توفير فرص متساوية في التعليم وإدخال التكنولوجيا الحديثة إلى المدارس بواسطة استخدام أجهزة “بي تي” التي تجعل الطالب يستعمل أكبر عدد ممكن من حواسه، وسيتم تطوير البنية التحتية لتمديدات الإنترنت، وستعدل البرامج لكي تناسب هذه التكنولوجيا الجديدة كما سيتم تدريب المدرسين على استخدام هذه الطريقة الجديدة في التعليم…”
وفي هذا السياق يشرح “دينشر أتيش”، المدير العام للابتكار وتكنولوجيا التعليم التابع لوزارة التعليم التركية مرامي هذا المشروع التعليمي الكبير فيقول: “أن مشروع الفاتح من أهم وأكبر المشروعات على مستوى العالم الذي يحتوي خدمة إنترنت عالية السرعة للوصول إلى الشبكات العالمية، وقواعد البيانات وبرامج إدارة المحتوى والشبكات الاجتماعية وتدريب المعلمين”.
فبهذه المشاريع الطموحة تقود الحكومة التركية سياستها الداخلية والخارجية، وتصنع مكانتها الحضارية بين دول العالم، وأما الأنظمة العربية –أنظمة الاستبداد والتبعية- التي تدير سياستنا فهي لا تحمل أي رؤية للتغيير، بل تمارس منطق السياسة، بلغة الصراع بين القبائل المتناحرة، التي عرفتها الجغرافيا العربية منذ القدم، فالتعليم في هذه البلاد لا يشكل أي قاعدة للنهوض، بل أحيانا يشكل قاعدة للعداء والمعارضة لهذه الأنظمة، -طبعا- في نظر الكثير منها، والله المستعان.