داء الأمم/ نور الدين رزيق
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾[المائدة/27-31].
هذه أول جريمة وقعت في الأرض قتل ابن آدم لأخيه بسبب الحسد، وأول معصية وقعت في السماء كانت أيضا بسبب الحسد عندما أمر الله تعالى إبليس أن يسجد لآدم فقال إبليس:﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾[الأعراف/12]، ومن قال أنّ النّار خير من الطين قياس باطل إنمّا هو الحسد.
وقد اتصف أهل الكتاب وبنو إسرائيل على الخصوص بهذا المرض ولذلك جاءهم الحق فأعرضوا عنه.
قال تعالى:﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾[النساء/54].
وقال تعالى عن اليهود:﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة/109].
هذا المرض الحسد سماه النبي -صلى الله عليه وسلم -: داء الأمم.
روى أحمد والترمذي عن الزبير بن العوام، قال صلى الله عليه وسلم:”دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم” حسنه الألباني.
أسر ودول وحضارات زالت بسبب الحسد والشحناء والبغضاء بين أبنائها.
لا تتركوا هذا المرض ينتشر بين أبناء الوطن الواحد باسم الجهوية والقبلية والعروشية.
لا تُفاضل بين أبنائك فتفضل هذا على هذا: الصغير على الكبير أو البنت على الولد أو أبناء المرأة الثانية على الأولى فهذا يؤدي إلى انتشار الحسد والبغضاء بين أبنائك.
رواه الشيخان عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه – أنّ أباه أعطاه غلاماً، فقالت أمه: لا أرضى حتى تشهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فذهب بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل، فقال: “أكل ولدك أعطيته مثل ما أعطيت النعمان“، فقال: لا، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم“.
- قال معاوية بن أبي سفيان كاتب الوحي للنبي -صلى الله عليه وسلم – الذي قال فيه ودعا له صلى الله عليه وسلم: اللهم علمه الكتاب والحساب وقِهِ العذاب: “كلّ داء إلاّ ووجدت له دواء إلاّ الحسد”.
- إنّ الرجل الحاسد يعيش كَئيِبا في هذه الحياة منكمشا: لأنه لا يرضى بنعمة تحل بشخص يتمنى زوال النعمة على النّاس فالنّاس في فرح وهو في حزن، النّاس في بهجة وهو في همّ، حرارة الحسد قد تقتله ولذلك أقول ترى بعض النّاس ولا أعمم تجده صحيحا فتسأل عنه بعد ذلك تجده قد مات لربما لضغط الدم، أو السكري بسبب هذا المرض: الحسد.
- إنّ الذي في قلبه مرض الحسد لا يؤمن بالقضاء والقدر لماذا؟ لأنّه يقول لماذا فلان صحيح وأنا سقيم، لماذا فلان غني وأنا فقير لماذا فلان له الولد وليس لي ولد: المعطي هو الله تعالى النافع هو الله تعالى قدر الله لك أن تعيش فقيرا وجارك غني لماذا؟ تحسده فلذلك الحاسد لا يؤمن بالقضاء والقدر.
- كان من المفروض أن هذا الذي أعطاه الله تعالى من فضله تصاحبه ولا تعاديه لأنّه مهما أعطاه الله تعالى فإنه سيصيبك شيء من ملكه إما بالهدية أو الصدقة أو الزكاة ولو كان له ولد فصحبتك له يجعل أبناءه في خدمتك وتلقاهم عند الشدة.
جاء في الحديث القدسي إنّ لله عباد يسيحون في الأرض فيستغفروا لذاكري الله تعالى فقال ملك منهم: فيهم رجل ليس منهم إنما جاء للحاجة فقال: هم الجلساء لا يشقى فيهم جليسهم”.
- بل الله تعالى رفع من شأن كلب وخلد اسمه في القرآن مع أهل الكهف {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا﴾[الكهف/22].
إن الحاسد مهما كسب من جولات فإنه سيخسر لا محالة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة”.
- ذكر المازني وابن عساكر قصة عجيبة وغريبة حدثت في عهد المماليك:
يروى أنّ سلطانا من دولة المماليك كان يعقد مجالس للسمر ليلا وكان رجل يحضر هذا المجلس وعند دخوله المجلس يقول:
السلام عليكم كفى الله المحسن إحسانا وكفى المسيء إساءته ولاحظ الوزير أنّ هذا الرجل يأخذ مكانه عند السلطان فلما انفضّ المجلس قال الوزير للسلطان يا أمير المؤمنين أتدري ماذا يقول عنك هذا الرجل عندما يخرج من المجلس فقال له السلطان وماذا يقول؟ قال يقول: إن الملك (السلطان) أبْخَرْ (مرض اللثة) ينبعث من فمه رائحة كريهة، فقال السلطان: وما دليلك؟ قال يا أمير المؤمنين لاحظ أنه إذا أراد أن يكلمك وضع يده على أنفه.
فخرج الوزير بعد ذلك يطلب هذا الرجل مخموم القلب وقال له إني صنعت لك طعاما هذه الليلة قبل أن تدخل على مجلس السلطان.
وفعلا صنع له الطعام وأكثر في الطعام الثوم والبصل وبعد ذلك ذهب هذا الرجل إلى مجلس السلطان كالعادة فقال: السلام عليكم كفى الله المحسن إحسانا وكفى المسيء إساءته.
فقال له السلطان أدنو مني فلما دنا منه أراد السلطان أن يحدثه فوضع الرجل يده على فمه حتى لايؤذي السلطان برائحة البصل والثوم فقال السلطان في نفسه صدق الوزير.
وكان السلطان إذا أراد أن يجازيَ أحدا يرسل برسالة إلى والي من ولاته فأعطى هذا الرجل رسالة وقال له خذها إلى الوالي الفلاني.
فخرج هذا الرجل مخموم القلب فراءه الوزير فقال له ما هذه الرسالة قال أعطانيها السلطان إلى الوالي الفلاني فقال له الوزير أنا آخذها. فلما وصل الوزير إلى الوالي المعني ضانا منه أنه سيعطيه جائزة فسلمه الرسالة فقرأها الوالي:
السلام عليكم إذا جاءك حامل هذه الرسالة فاذبحه وأحش جسده تبناً وأرسله إلي.
فقال الوزير: لا لست أنا صاحب هذه الرسالة دعني أراجع الملك فقال الوالي أن قرارات الملك لا تراجع، فنفذ فيه الحكم.
فلما أدخل الجنود على الملك جثة الوزير تفاجأ السلطان فإذا بالرجل مخموم القلب يدخل ويقول: السلام عليكم، كفى الله المحسن إحسانا وكفى المسيء إساءته.
هذه نهاية الحاسد!!
ما هو سبيل الوقاية والستر من الحسد وكيف معالجته:
- أما الوقاية منه فلا يكون دفْعهُ بتعليق آية الكرسي ولا صفيحة الحصان (حدوة الحصان) أو وضع الشوك في السيارة أو إطار عجلة سيارة (Pneu) على وجه بناية ضخمة دفعا للعين والحسد.
- وحتى نحمي القلب من الحسد علينا أن نكثر من مجالسة الصالحين والقراءة عن الصالحين.
مثال ذلك:
روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك أنّ النّبي -صلى الله عليه وسلم – قال حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:(يطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ. قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا. فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ (يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ؛ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ .
وهكذا رواه عبد الرزاق في “المصنف” (20559) وابن المبارك في “الزهد” (694) والنسائي في “الكبرى” (10699) وعبد بن حميد في “مسنده” (1157) والضياء في “المختارة” (2619) والبيهقي في “الشعب” (6605) وابن السني في “عمل اليوم والليلة” (754) والسمعاني في “أدب الإملاء” (ص 122) وابن عبد البر في “التمهيد” (6/122) كلهم من طريق معمر عن الزهري عن أنس به .
- ذكر علماء التفسير أن حواء كانت تحمل في كل بطن توأما (ذكر وأنثى) فحملت البطن الأول قابيل وأخت له وكانت جميلة ووضعت في الحمل الثاني هابيل وأخته له وكانت ذميمة (ضعيفة) وكانت شريعة آدم الأولى حتى يتكاثر النسل، أن يتزوج قابيل من أخت هابيل وهابيل من أخت قابيل، فأبى قابيل وأراد أن يتزوج من أخته الجميلة فقال آدم عليه السلام قربا قرباناً فمن تُقبّلَ منه فهو أحق بها، كان قابيل صاحب زرع وكان هابيل صاحب ضرع.
- أما قابيل فأخرج أردأ قمح كوم رزمَة قمح.
- وأما هابيل فأخرج أحسن ما عنده من الأغنام فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فقال قابيل لأخيه لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين.
- روى الجماعة عن ابن مسعود قال؛ قال صلى الله عليه وسلم: “ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفلا منها ذلك لأنه أول من سن القتل”.