وحدة الأمة .. نزوع عاطفي و عمل ميداني بقلم : د. إبراهيم نويري ـــ

تأملتُ نزوع ” وحدة الأمة ” فألفيته يبدأ في مراحله الأولى جذوةً شعورية متقدة ، مفعمة بالحياة و العاطفة الصادقة ، تجعل المسلم – في أيّ زمان ومكان – يقاسم أخاه المسلم المشاعر و الآمال و التطلعات ذاتها كأنها تيار أو سلك يوصل بين جميع أجزاء الكيان الحي .. ثمّ تبيّن لي بعد ذلك – في ضوء ما يُفهم من نصوص الكتاب و السنة – أنه من الضروري أن لا يقف هذا النزوع الإيماني المقدور عند هذه التخوم ، بل من الواجب أن يتحوّل إلى عمل حيّ موّار له ثمار ونتائج مشهودة ، ومن غير المقبول و لا المعقول أن تظل تلك المنازع الوحدوية ثاوية في أعماق أصحابها دون أن تتحوّل و تُترجم في الواقع إلى قوة دفع وعمل وإنجاز .
و هذا ليس تهوينا أو انتقاصاً من قيمة الشعور الصحيح بوحدة الأمة في نفسية الإنسان المسلم ـــ معاذ الله أن يكون ذلك ـــ و إنما هو تنبيه مهم إلى ضرورة و أهميّة أن تتجسد المشاعر و الأحاسيس في صورة أعمال و منجزات نافعة لهذه الأمة . ومما يُروى عن الإمام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله صاحب تفسير المنار المشهور ، أن والدته ــــ رحمة الله عليها ـــ كانت تسأله إذا نهض من نومه وعلى وجهه مسحة من الكآبة والحزن قائلة : ” لماذا أنت حزين ؟ هل مات مسلم في الصين ؟ !” .. وذلك لكثرة ما كانت تلاحظه عليه من متابعة يومية و آنية لأوضاع المسلمين واهتمام متواصل بشؤونهم و قضاياهم . بينما نحن نلحظ الآن تقصيراً واضحاً إزاء إخوة العقيدة و الدين المعذبين المضطهدين في أقطار كثيرة مثل فلسطين و ليبيا و سوريا و اليمن و بورما و بنغلاديش و افريقيا الوسطى و أنغولا و تركستان الشرقية .. إلخ ..
و للأمانة الواجبة ، لا بدّ من الإقرار بأن قضية وحدة الأمة ، أخذت تتجذّر و تتعضّد في أدبيات و أطروحات الفكر الإسلامي المعاصر ، بعد أن دحرجها الإستعمار الغربي و الثقافة الغازية إلى أدنى رتب و مواقع الاهتمام .. بيد أننا بحاجة إلى أن نسوق هذه الملاحظات ، ترشيداً و إضاءةً لمسارات العمل الطويل من أجل تحقيق وحدة الأمة المسلمة التي تُعدّ من الغايات و المقاصد الكبرى في ديننا و عقيدتنا .
1 ـــ إحساس الأمة المسلمة بضرورة اللقاء والتناصر والتعاون .. هو إحساس منطقي و واقعي، لأنه منبثق من أصول معتقداتها ومن مرجعيتها الأولى .. ناهيك عن إدراكها ــــ على صعيد الواقع الماثل ــــ لمخاطر التفرّق والتشرذم الذي أضرّ بها ضرراً فادحاً ، في عالم لم يعد يعير أيّ اهتمام للضعفاء المشتّتين المتخاصمين .
2 ـــــ الأوضاع العامة في الأمة الإسلامية بكلّ مكوّناتها، وكذلك إزدواجية الشخصية على المستوى الفردي للإنسان المسلم ، تدلّ على وقوع ما يشبه حالة من حالات الانفصام والتباعد الفظيع بين المقوّمات العقدية والفكرية ، وبين السلوك والواقع والمعاملة في حياة الأفراد وأيضا في شبكة العلاقات الاجتماعية للأمة في سياقاتها الواسعة و آفاقها الشاملة .
3 ــــ ينبغي على الأمة الإسلامية في هذه الانعطافة التاريخية الحساسة ، أن تبادر إلى تصحيح أوضاعها العامة ، وأن تدرك عناصر القوّة الحقيقية في كيانها ، كما يجب أن يكون لها تشخيصٌ صحيح للأسباب التي كانت وراء الواقع السيء الذي تعيشه منذ عقود طويلة ، والأهم من ذلك أن تضبط منهجية عمل ، من أجل تفعيل عناصر القوة الكامنة في مرجعيتها وفي موروثها العقدي والثقافي ، بغية تجاوز وتخطّي الواقع السيء المنظور أو القائم في واقعها، مع السعي الحثيث للقضاء على كلّ عوامل و أسباب الضعف والوهن والتراجع العلمي والحضاري .
4 ـــــ الخطاب الوحدوي في الفكر الإسلامي المعاصر ، مشروع حضاري يستند إلى كليات حقائق الوحي ومسلّمات الدين والشريعة والسلوك الإسلامي الأقوم .. كما أنه يروم ويتطلع إلى دحض كل ألوان و أوجه التناقضات والسلبيات التي تنخر كيان هذه الأمة ، من مثل المنازع الطائفية والفئوية والحزبية الضيّقة ، لأنه انبثاق من جوهر الرسالة والنبوّة . فهو تفكير يهدف إلى تجسيد وحدة الغاية و وحدة المضمون المنبثقة أساساً من وحدة النص .
5 ــــــ مشروع وحدة الأمة في المنهج الإسلامي يستهدف إعزاز الأمة الإسلامية و إحياء دورها الحضاري الريادي بوصفها أمة شاهدة و أمينة على حقائق ومضامين الوحي كما تناهى إلى الرسالة الخاتمة . كما أن تفعيل العمل من أجل وحدة الأمة يُعدّ ضمانة قوية في سبيل تمكين الأمة و إعزازها و إسماع كلمتها على جميع الأصعدة ، لأن الوحدة تمثل جوهر هُويّة الأمة وفكريّتها ، وأهم القسمات التي تميّزها عن غيرها من أمم المعمورة .
6 ــــ لا بد من جعل قضية فلسطين عامة و قضية القدس الشريف خاصة ، قضيةً مركزية للجميع ، و بوصلةً في الاهتداء و التقارب و التعاون بين أبناء الأمة المسلمة ؛ و بمنتهى الصراحة أقول : إنّ ما حدث مؤخراً و تحديدا يوم الجمعة 14 يوليو 2017 م ، من إقدام سلطات الاحتلال الصهيوني على غلق المسجد الأقصى و منع الآذان و إقامة صلاة الجمعة فيه لأول مرة منذ نحو نصف قرن تقريبا ، ثم وضع بوابات الكترونية لمرور المصلين عبرها ــــ تشديدا في الحراسة و الهيمنة على المقدسيين ـــــ لم يُدفع بموقف مشرّف من الأمة الإسلامية خاصة على المستوى الرسمي ؛ إذ لم نقرأ بياناً واحداً مندداً بالإجراءات الخطيرة التي ما فتئت سلطات الاحتلال الصهيوني تنفذها من حين لآخر ، و لو لا بعض المواقف الشعبية الشجاعة خاصة من طرف أهل القدس و فلسطين لما حدث أي تراجع فيما يتعلّق بمسألة البوابات الالكترونية ، التي تمّ استبدالها بكاميرات و أجهزة تفتيش عن بعد ؛ و لكن أهل القدس الأشاوس ظلوا على موقفهم و أصروا على رفض الصلاة في بيت المقدس و باحاته ما دام تحت الهيمنة و التفتيش البوليسي الصهيوني المحتل . و كان ينبغي أن تكون كل خطب الجمعة في مساجد العواصم الإسلامية حول القدس الشريف ، فهو أمانة في أعناق المسلمين جميعا ، لا يجوز التفريط فيه ، لأنه مسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و القبلة الأولى للمسلمين ، و هو رمز لوحدة الأمة و عزتها ؛ و لا أعتقد أن مجد الإسلام و رفعة المسلمين ــــ بالمعنى الحضاري ـــــ ستعود مرة أخرى قبل تحرير المسجد الأقصى و إعادة كل فلسطين إلى أهلها . والله و ليّ التوفيق .